د. فاروق ثابت

د. فاروق ثابت

الأرض اليمنية.. الهوية والثورة

Monday 28 September 2020 الساعة 10:24 pm

شكلت الأرض والزراعة والفلاح العمق الاستراتيجي للهوية اليمنية منذ أن وُجد الإنسان اليمني على الأرض.

ومنذ القدم ارتبطت الأرض والزراعة بازدهار الدول واندثارها من حيث تأثير نتاج الأرض على اقتصاد وتجارة تلك الدول اليمنية.

ووصلتنا النقوش المسندية تؤكد الحياة العامة للإنسان اليمني عبر التاريخ ومآثره وارتباط ذلك بتغيير نمط حياته وعيشه بما في ذلك الفن والغناء الذي جسد بهجة الفلاحين ومهاجل الأرض والإنتاج والحصاد.

وترسَّخ ذلك كجزء من هوية الإنسان اليمني وكينونته إزاء الابتهاج بالأرض ومواسمها الكريمة عبر العصور.

كلما أستمع "يا حاملات الشريم" للفنان أيوب طارش، تأخذني الذكرى إلى الجبل والوادي والطل والصباح الأصيل،
أسافر إلى أغاريد الرعيان واغنيات الراعيات، ومهاجل الفلاحين في صباحات وديان تعز المنتشية بنسائم اليمن الكبير.

السدود كانت أهم وسائل خزن الماء وري الأرض، وقد اكتشف القدماء ودونوا التقويم الحميري ومنه عرفوا مواسم الامطار والسيول والزراعة وكانوا يستعدون لها.

كان "الرهينة" أحمد سعيد كلابة يقف على عتبة باب منزله القديم في كلابة وهو يحدق باتجاه جبل "وَعِل " اكبر جبال شمال مدينة تعز، ويعتقد أنه تسمية الوعل هي لكثرة وجود الوعول في ذلك الجبل الشامخ، ويرتبط الوعل بطقوس العبادة لدى اليمنيين القدماء.

كان الجد يحدِّق باتجاه ذلك الجبل وهو ينظر للسماء قائلاً سيكون مطراً غزيراً اليوم، فيهطل المطر بغزارة، وإن قال إن المطر لن يحصل وإن كانت البشارات بالهطول كبيرة، كانت السحاب سرعان ما تتفرق وتذهب.

"علان ومبكر ومذرئ، وصرب" هي المواسم التي ورثها الأجداد من الحميريين والتي وجدت قديما بسبق كلمة "ذي"، كانوا يجيدونها ويعرفون مواقيتها بدقة وخاصة اوقات "الذري" و"الصراب".

ونظراً لهذه القيمة العظمى التي ربطت الأرض بالوطن عند الإنسان اليمني، فقد حاول الأئمة طوال فترة وجودهم تشتيت هذا الرباط الوثيق إزاء الامعان في الظلم والطغيان ضد الفلاحين والمزارعين ما جعل اليمنيين يكرهون الأرض ويبيعونها، بعض منهم مات قهراً وآخرون فروا إلى الحبشة أو عدن وبعض آخر ظل محتملاً كل صنوف الأسى والعذاب والفقر والمرض وهو من الداخل يكره اليوم الذي خلق فيه مزارعاً ليحصد إلى يد غيره مرغماً، ودوّن ذلك كل من القيل محمد النعمان في كتابه "مذكرات النعمان" والقيل مطهر الإرياني في قصيدة "البالة" والقيل محمد عبد الولي في معظم مجموعاته القصصية، وأشار لذلك أيضاً القيل القاضي إسماعيل الاكوع والقيل محمد الفسيل.

إن الانبعاثة الشعرية الجديدة للتغني بالأرض والفلاح هي جزء لا يتجزأ من الثورة اليمنية الخالدة إزاء إعادة اليمني إلى كينونته ومهده وخدره التي وجد نفسه فيها وهي الأرض اليمنية التي لم تخذل فلاحها على مدى التاريخ، هي الأرض ذاتها التي كانت وما زالت مطمع الطغاة السلاليين بدواعي الزكاة والفطرة والخُمس والواجبات وما إلى ذلك من المسميات التي اختلقها الكهنوتيون لابتزاز الإنسان اليمني ونهب محصوله منذ أن وجد هؤلاء اللصوص على الأرض اليمنية.

الأرض التي جسدها وعمق روابطه بها أدباء اليمن في الداخل والخارج في كثير من قصائدهم الغنائية، ولعل أبرزهم الفضول عبدالله عبدالوهاب نعمان، والمحضار، ولطفي جعفر أمان، والمقالح، والقمندان، وعلي صبره، وجابر رزق، وكثير من الشعراء اليمنيين الذين تحولت قصائدهم إلى مغان يرددها اليمنيون في سهول وجبال ووديان وشواطئ اليمن الكبير، ولعل أبرز هذه القصائد واشهرها قصيدة "البالة" للشاعر اليمني الفذ القيل مطهر الارياني التي غناها الفنان "علي بن علي الآنسي" وحققت صدىً واسعاً في اليمن ما يزال حتى اليوم.

بينما أكتب هذا والذاكرة تنداح بي إلى وادي "السحولي" و"صُلْبي النامس" و"الهجرية" و"سَيَّان" في قريتي -شمال تعز - وبيدي "المجرفة" طفلاً أصنع السواقي تحت زخات المطر، لري الزرع، ويا لها من ذكرى محاطة بالماء والخضرة والرقص والملالاة والوطن الجميل، فيما يردد الذهن مهجل: "اليوم والله واليوم دائم، قاصربوا الدخن، والذرة قائم".

كل 26 سبتمبر وأنتم بخير..