احتفى اليمنيون مطلع الأسبوع الماضي في عملية "تبادل الأسرى" التي أشرف عليها مكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي، وتمت إجراءاتها بموجب "اتفاق استوكهولم"، الذي تم التوصل إلى تفاهماته في منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2018، وكان البند الأهم هو وقف العمليات العسكرية في مدينة الحديدة وتبادل الأسرى وفتح المعابر في مدينة تعز.
وإذا كان البند الرئيس المتعلق بوقف العمليات العسكرية قد تم التوصل إليه بضغوط خارجية، فإن مرد ذلك هو أنه كان مرتبطاً بعوامل وتقديرات إقليمية ودولية أكثر من كونه قراراً يمنياً، وصار من السهل الالتزام به من قبل الأطراف المحلية، من دون عناء على الرغم من الخروقات التي تحدث بين فترة وأخرى.
في المقابل، تعثر البندان المتعلقان بترتيبات محلية صرفة، بسبب عدم وجود ما يدفع الطرفان اليمنيان إلى تحقيقهما.
فقضية "الأسرى" لم تكن تمثل عبئاً وطنياً أو إنسانياً عندهما، قدر كونها قضية إعلامية يتم التعامل معها من دون استعجال ولا اهتمام حقيقيين لكسب نقاط، ولهذا استغرق إنجاز جزء منه وقتاً طويلاً، لم يكن من المنطقي أخلاقياً أن يستوجب كل تلك الفترة الطويلة، التي زادت من معاناة الأسرى وأسرهم.
ومن الجميل أن هذا البند، على الرغم من التعقيدات التي اكتنفت إنجازه جزئياً، فإنه حتماً يفتح باباً ضيقاً يمكن البناء عليه تحت شعار "بناء الثقة"، الذي يحاول مكتب المبعوث الأممي التوصل إليه، من دون جدوى منذ سنوات، وهو مسار شديد الصعوبة لأنه يحتاج أولاً إلى رغبة أكيدة من الأطراف اليمنية لوقف العمليات العسكرية كي نجد أمامنا فرصة ضئيلة لوقف الحرب نهائياً، ولست على يقين من أن قادة الحرب المحليين المستفيدين من استمرارها، قد ارتقوا أخلاقياً ووطنياً إلى هذا المستوى.
الأمر نفسه يمكن أن يقال عن "فتح المعابر" المؤدية إلى مدينة تعز وريفها، وهي قضية لا تتعلق باعتبارات عسكرية أو أمنية ومن اليسير معالجتها، ولكنها حتماً مرتبطة بالمكاسب المالية الهائلة التي تحققها ميليشيات الحوثيين، التي تسيطر على مدخلها الشمالي على الطريق الذي يربط وسط مدينة تعز بمنطقة (الحوبان)، التي يوجد فيها أغلب المصانع، وتمر من خلالها الحركة التجارية القادمة إلى تعز من صنعاء.
وقد جرت محاولات محلية كثيرة لفتح هذا المعبر، الذي أحال حياة الناس إلى معاناة إنسانية مذهلة في أحزانها.
إذ جعلت الوصول إلى قلب مدينة تعز من مدخل (الحوبان) رحلة عذاب وموت، وهي المسافة التي لم تكن تستغرق أكثر من نصف ساعة في الأحوال العادية، فتحولت إلى مغامرة لا تقل عن ثماني ساعات عبر طرق وعرة وخطرة يحتاجها كل المواطنين لوصول الأدوية والمواد الغذائية والمشتقات النفطية.
ولكن هذا لا يعنى أن المداخل الأخرى التي تصل المدينة بأجزائها المختلفة وبريفها أفضل حالاً، فقد توزعتها وتناوبت عليها الميليشيات المحلية المتصارعة على زعامة تعز، وصارت المدينة عبارة عن مربعات للرعب والاختطافات ونهب ممتلكات الناس الخاصة والتعدي على الأراضي المملوكة للدولة وللمواطنين على حد سواء، وغابت السلطة المحلية عن أداء دورها، لأن مؤسساتها مقسمة بخطوط حزبية، وهو أمر يصيب في مقتل كل محاولات إعادة تفعيل دور الدولة الواحدة التي تضبط إيقاع الحركة الأمنية والإدارية.
إنني أرى، وأعتقد أن كثيرين مثلي، أنه لا يمكن أخلاقياً المناداة باستمرار الحرب بينما أنا أعيش خارج ساحاتها، ولم أظنها منذ البداية قادرة بمفردها أن تكون مخرجاً لليمن من محنه.
لذلك فإنني لأسباب إنسانية وأخلاقية، لا أقلل من حيوية تنفيذ "اتفاق استوكهولم" ووجوب تنفيذه، بل إني على ثقة من إمكانية اتخاذه معبراً آمناً لوقف العمليات العسكرية في عموم اليمن كخطوة أولى، ولعل فيه ما يبعث أملاً بأن تكون الأطراف التي تقود الحرب المدمرة، التي صارت غير ذات جدوى ميدانية، قد استوعبت أنها لن تحقق على الأرض أكثر مما أحرزته خلال السنوات الماضية، وأن تكون قد أدركت أنها تعيش سراباً إذا توهمت قبول الناس ورضاهم عن شعاراتها المضللة وممارساتها المخيبة وتمثيلها المحبط.
وأنا هنا أعني "الشرعية" و"الحوثيين" ،
فكلاهما لا يعبر عن طموحات الناس وآمالهم، لأنهما لم يقدما للناس نموذجاً أخلاقياً وإنسانياً ووطنياً يدفع المواطنين إلى القبول بأي منهما كسلطة حاكمة دائمة.
كما أن الواقعين بين مخالبهما لا يملكون خيارات سوى الرضوخ والقبول بالمسؤولين الذين يمثلونهما ويديرون شؤونهم اليومية.
البعض يربط ما يدور حالياً حول القضية اليمنية باحتمالات نتائج الانتخابات الأميركية ويغرقون في محيطات من تحليلات يربطونها بعودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب أو فوز منافسه نائب الرئيس السابق جو بايدن.
لكن الواقع هو أن اليمن لم يكن يوماً ملفاً مزعجاً داخل البيت الأبيض، إنما في مجلسي الشيوخ والنواب.
ولهذا فإن نتائج الانتخابات النصفية لهما ستكون أكثر تأثيراً ومصدراً للقلق عند من يرغب في عودة ترمب أو خروجه من المشهد.
والعامل الثاني هو أن اليمن كانت دوماً ملفاً مرتبطاً بالترتيبات الإقليمية والداخلية وليس بالمشهد العالمي الكلي.
وهكذا فمن الواجب والضروري النظر إلى ما تسرب من صيغة تقدم بها المبعوث الأممي تحت مسمى "الإعلان المشترك" كمحفز لخطوات جادة في طريق لوقف الحرب والدخول في مسار السلام، ثم البدء في بحث المستقبل السياسي لليمن.
وهنا من الواجب القول إن صيغة "الإعلان المشترك" ليست مثالية ولا يمكن بالمطلق أن تكون كذلك من دون نقاش مباشر بين الطرفين (الشرعية والحوثيين)، وجهاً لوجه، وهي مسألة لن تحدث ما لم يستوعبا أن الغالبية العظمى من المواطنين ترى أنهما شريكان في مآسيها وكوارثها، ولا يكفي التشبث بالقرارات الدولية والمرجعيات من جانب "الشرعية" كي تتصور أنها صكوك دائمة الصلاحية، لأنها لم تستخدمها ولم تبرهن عن جدارتها لا قبل "الانقلاب" في سبتمبر (أيلول) 2014 ولا بعده حتى الآن، ولا يعتقد "الحوثيون" أن سيطرتهم على العاصمة أمر سيتم القبول به وطنياً وإقليمياً ودولياً حتى مع ما يقال، إنه وصول لدبلوماسي إيراني إلى صنعاء.
فهذا أمر ليس أكثر من فرقعة إعلامية لا طائل من ورائها، وعليهم أن يفهموا أن الدولة المحترمة لا تهرب دبلوماسييها خلسة بل ترسلهم بكل احترام في وضح النهار.
إن اليمنيين بحاجة إلى سلطة تحترم حقوقهم وتعيش بينهم وتقدم لهم الخدمات وتحفظ حرياتهم العامة والخاصة، وللأسف فإن ما يرونه ليس أكثر من أشخاص يعبثون بمصيرهم، ولا يكترثون لأحزانهم ولا يقدمون نموذجاً وطنياً يحترمه الناس ويدافعون عنه ويتشبثون به.
* نقلا عن اندبندنت عربية