د. صادق القاضي
الارتزاق عربياً: مهنة بلا ملامح.. ومرتزقة بلا وعي ولا حقوق!
بكتابه "مهمة في الجزيرة العربية" قدّم "دايفيد سمايلي" مرجعاً مهماً للتاريخ اليمني الحديث، كشاهد مشارك في الحروب الجمهورية الإمامية خلال ستينيات القرن الماضي.
أكثر من ذلك، قدّم مرجعاً مهماً لمهنة الارتزاق، من حيث هي مهنة تقليدية لها محددات والتزامات وأخلاقيات وحقوق.. كأي مهنة أخرى.!
سمايلي خبير عسكري بريطاني كان يعمل في اليمن لحساب دولة عربية، وفي هذا الكتاب تحدث بالكثير من المكاشفة والزهو. عن نفسه ومهنته ومهمته.. كمقاتل محترف مأجور مخضرم في "الارتزاق".!
الارتزاق بالنسبة لسمايلي، هواية ومهنة وتجربة مثيرة، قاتل خلالها في أكثر من جبهة، ولحساب أكثر من جهة، وخرج منها بالكثير من الأموال والعلاقات والأفكار والخبرات. التي أودعها هذا الكتاب.
الارتزاق -حسب رأيه- مهنة عادية وربما شريفة، ويكمن شرف المهنة فيها بالتالي:
- أن لا يقاتل المرتزق ضد وطنه.
- أن يقوم بمهامه بأمانة وعلى أكمل وجه.
- أن لا يبدد عائدات المهنة في ملذات الجنس والشراب.
أكّد سمايلي على توافر هذه القيم في حالته، فضلاً عن الدافع الوطني، فدولته "بريطانيا" التي كانت محتلة للجنوب اليمني حينها كانت مستفيدة من عمله مرتزقاً ضد القوى الثورية الجمهورية في الشمال.
بل تحدث عن نفسه، وأشار إلى مرتزقة آخرين باعتبارهم أبطالاً، وهو شيء يمكن تفهّمه في حال المقارنة بمرتزقة يقاتلون ضد أوطانهم، وبلا التزامات مهنية أو أخلاقية من أي نوع.!
لكن هذا لا يجعل من الارتزاق فضيلة. الارتزاق -حتى في أحسن حالاته- مهنة سيئة السمعة، فالمرتزق: شخص بلا قضية. ولا يهمه من الصراعات والحروب الدائرة غير مصلحته المادية.
هذا التعريف يصح أيضاً على العمل في مجال "الدعارة": "استئجار أو تقديم أو ممارسة خدمات جنسية بمقابل مادي" أو "بيع الخدمات الجنسية" بلا عاطفة.. ومن أجل المال فقط. باستثناء أن "الدعارة" تجري في المواخير بدلاً من الثكنات.!
بالمناسبة. هناك من يعتبر "ممارسة أيّ مهنة، أو التفوه بأية فكرة، أو موقف سياسي من أجل المال فقط، أو المنفعة والمصالح الخاصة.. نوعاً من الدعارة".
يصح هذا أيضاً على حالة الارتزاق. مثلاً: المرتزقة الذين يحملون الأقلام أخطر من المرتزقة الذين يحملون الأسلحة، والظاهرة في الجبهات الإعلامية أكثر بروزاً منها في ميادين القتال.!
في المقابل، وعلى غرار "دايفيد سمايلي"، للدعارة هي الأخرى، كوادر يفتخرن بأنفسهن، والتزامهن بقيم ومبادئ مهنتهن التي يعتبرنها "شريفة"، ولبعضهن كتب لعرض تجاربهن "المشرفة".!
في الحالتين. نحن أمام مهنة لها عوائد وحقوق مالية، ويُفترض أن عليها ضرائب مستحقة، ومن الحكمة تنظيمها، وجعلها تتم تحت نظر الدولة، وبشكل رسمي وقانوني مسئول.
هذا ما حدث في معظم دول العالم. تحول الارتزاق -كالدعارة- إلى مهنة رسمية تتم عبر مؤسسات مختصة. تقوم باستقطاب وتجنيد وتدريب الكوادر، وحماية حقوق المرتزقة والزبائن على حدٍّ سواء.
"بلاك ووتر العالمية" و"أوبليسك إنترناشونال إل إل سي" و"داين كورب وإي أو دي تكنولوجي، إنك". و"تريبل كانوبي".. كلها شركات من هذا القبيل.
في العالم العربي والإسلامي، وهي أكثر بلدان العالم كثافة بالمرتزقة، لا توجد مكاتب وشركات ووكالات رسمية بعلامات تجارية، لإدارة هذه العملية بشفافية ومسئولية مماثلة.
فقط يوجد سماسرة. رجال دين وسياسة، وهؤلاء لا يسمون الأشياء بمسمياتها في هذه العملية التي تُمارس في الأسواق السوداء بكثافة عالية، وتحت شعارات أيديولوجية قومية ودينية ووطنية.!
لا أحد يريد أن يلعب بالمكشوف، حتى المرتزقة لا يدرون أنهم مرتزقة. يحسبون أنفسهم مجاهدين. مناضلين. مقاومين. ثوار.. وفي الأخير هم وحدهم من يدفع ثمن هذه التعويم والتعتيم والمخاتلة والتغرير والشعارات الزائفة..!
في الحرب الأفغانية، على سبيل المثال، كان المرتزقة المغرر بهم يقاتلون هناك في سبيل أمريكا، ويظنون أنهم يقاتلون في سبيل الله.. رغم أن الطابع الأمريكي لذلك المشروع كان واضحاً منذ البداية.!
ما له مغزى في هذا المقام، أن أمريكا كان بإمكانها حينها أن تنشر عبر وسائل إعلام الهند أو البرازيل، مثلاً، إعلاناً عن حاجتها لمرتزقة من أجل استنزاف السوفييت هناك أو في أي مكان آخر.!
لكن ذلك كان سيكلفها الكثير من الأموال، مقابل القليل من المقاتلين المحترفين الذين سيشترطون عبر الشركات المختصة ووفق عقود رسمية أجوراً يومية أو شهرية باهظة، وبنوداً إضافية لحالات التعرض للمخاطر.
بدلاً من ذلك أوكلت سماسرة الشرق الأوسط بمهمة جلب المرتزقة بطريقتهم.. بما يخفض الأجور ويرفع عدد المستجيبين الذين تهافتوا بمئات الآلاف.. استجابةً لذلك الإعلان الجهادي.!
قُتل الكثير منهم، وأصيب أضعافهم بإعاقات مزمنة، وبدلاً من دفع أجورهم بالعملة الصعبة المحددة سلفاً ودفع تعويضات للقتلى والمعاقين. تم تحويل الحساب إلى الآخرة.!
العملية برمتها تصب عادةً في جيوب سماسرة الجهاد وأمراء الحرب الذين يقبضون الثمن نقداً وبشكل عاجل، من قبل أطراف دولية مستفيدة لها أجندات دنيوية خالصة.
للظاهرة تجلياتها المأساوية الراهنة في أكثر من بلد عربي. خلال الأزمة السورية التي ما زالت مفتوحة. تم جلب آلاف المرتزقة من عشرات الدول للقتال في هذا البلد نيابة عن أطراف محلية وإقليمية ودولية راعية.
شهدت الظاهرة عمليات قذرة أكثرها فجاجة جلب مرتزقة إناث للترفيه الجنسي عن المجاهدين، ضمن ما صار يعرف بـ"جهاد النكاح". كنموذج فج لالتقاء الارتزاق والدعارة في حالة واحدة.!
بعيداً عن الجانب الأخلاقي، للقضية جانبها المادي والإنساني.. كثيرٌ من المرتزقة العرب والمسلمين تم ويتم استغلالهم والالتفاف على حقوقهم المادية والإنسانية.. من قبل السماسرة والمقاولين والقوى الإقليمية والدولية.
تنطوي العملية على تغرير. ونصب واحتيال على الحقوق المادية لهؤلاء المرتزقة الذين يستلم نظراؤهم الغربيون مبالغ مغرية، بينما هم يقاتلون مجاناً تقريباً، ولا يحصل المعاقون أو أسر القتلى منهم على تعويضات مناسبة.!
في كل حال مهما كان الارتزاق مهنة غير شريفة. إلا أن من الشرف:
- عدم التغرير بالمقاتلين، أو تمويه الارتزاق بمسوح شريفة.
- وعدم الالتفاف على حقوق المرتزقة. كونهم في النهاية بشراً.. لهم حقوق إنسانية ومادية واجبة.