د. صادق القاضي

د. صادق القاضي

تابعنى على

"التحوّث" و"التأخون".. من وجهة نظر مختلفة.!

Monday 21 December 2020 الساعة 07:45 am


حدث في أحد أيام شهر آب. 1973، في العاصمة السويدية "استكهولم". قامت عصابة مسلحة، بالسطو على أحد البنوك، واحتجاز عدد من الرهائن، للضغط على الشرطة خلال عملية التفاوض التي دامت عدة أيام.

اللافت في هذه الحادثة النمطية. خاصةً لعلماء النفس: هو أن الرهائن تعلقوا خلال هذه المدة عاطفياً بالخاطفين، وانحازوا إليهم عن ثقة وقناعة.. ودافعوا عنهم بحماس حتى بعد تحريرهم وإطلاق سراحهم.!

ربما ليس هذا جديداً علينا في اليمن، التي حدث فيها أكثر من مرة اختطاف سيّاح تعاطف بعضهم مع الخاطفين، وأثنوا عليهم حتى بعد تحريرهم وعودتهم إلى بلدانهم.!

غير أن القضية أكبر من مجرد تشابه بين عمليات فردية متفرقة.. فمن وجهة نظر العلم: هي ظاهرة عامة، وحالة نفسية فردية وجماعية باتت تُعرف بـ"متلازمة استكهولم".

يسميها بعضهم "متلازمة هلسنكي"، وتنص عموماً على أن نسبة كبيرة من الضحايا يرتمون في أحضان الجناة عن قناعة ورغبة صادقة.. تماماً ككثير من اليمنيين الذين انتهى بهم المطاف في أحضان الجماعة الحوثية.

بعضهم أصدقائي. وأعرف أنهم حسنو النوايا، ولا أشك ببراءة انحيازهم إلى الحوثي، وتعاطفهم معه، ودفاعهم عنه بحماس، بل وبحب وإخلاص، وبإرادة وقناعة تامة.!

بعضهم أصبح كذلك إثر اجتياح الحوثي لصنعاء، في سبتمبر 2014. وبعضهم إثر الانقلاب الحوثي على المؤتمر وتصفية الرئيس صالح في ديسمبر 2017، وما زال هذا يحدث، ربما بشكلٍ يومي، بمناسبات مختلفة.

قبل تهاوي قلاع الدولة، كان هؤلاء ضد مختلف الجماعات والميليشيات الدينية، وبالذات الجماعة الحوثية التي كانوا يصفونها بالهمجية، قبل أن ينحازوا إليها.. فجأة. بمجرد شعورهم بأنها أصبحت صاحبة السلطة.!

ليسو. كما قد يبدو: انتهازيين أو جهلة أو مرتزقة، أو مراهقين مغامرين، أو عاطلين يبحثون عن دور، أو أصحاب مصالح يريدون الحفاظ عليها.. مقارنةً بغيرهم من المتحوثين.

على العكس. هم أشخاص أسوياء.. كانوا مواطنين يؤمنون بشكل مطلق بالدولة، ومدنيين لا يمكنهم تصور العصر والمجتمع والحياة.. دون دولة مدنية ومؤسسات حديثة ولو بالحد الأدنى.

لم يخذلوا أحداً.. بل خذلتهم الدولة والنخب السياسية المتناحرة.. فوجدوا أنفسهم هكذا فجاةً. عُراةً من كل حماية، عزّلاً من كل قوة.. وفي قبضة جماعة مسلحة استحوذت على كل شيء.. وحولت الجميع إلى رهائن.!

في هذه الظروف الاستثنائية العنيفة فقط "تحوّثوا".. كما "تأخون" غيرهم في مناطق سيطرة "الإخوان"، وفي الحالتين لا تتعلق القضية بكل المتحولين، بل بنسبة محدودة منهم تكيفت مع هذه الجماعات تحت هاجس هذه المتلازمة.

حسب الخبراء فإن "التضامن مع المعتدي هو إحدى طرق الضحية للدفاع عن الذات"، فهي بإيمانها بنفس أفكار وقيم المعتدي، تعتقد أن هذه الأفكار والتصرفات لا تمثل تهديداً أو تخويفاً لها من أي نوع".!

كما تفسّر هذه المتلازمة كيف أن نسبة عالية من الافراد. في أي مجتمع. تقف عفوياً في أوقات الانقلابات والثورات والتحولات الجذرية.. "تبعاً لمن غلب". يؤكد المختصون أن هذه النسبة تزيد أحياناً عن 30% من الأفراد.!

يعني هذا في هذا المقام أن المشكلة لا تقتصر فقط على بعض "المتحوثين". و"المتأخونين"، بقدر ما تتعلق بجزء كبير من الشعب اليمني المغلوب على أمره، والمقيم كرهائن في مناطق السيطرة الحوثية والإخوانية.!

هذه السلطات الطارئة هي المستفيد الوحيد من هذه الحالة، وكلما طال أمد الحرب استفادت أكثر، وطبّع المزيد من اليمنيين، علاقتهم النفسية والفكرية والدينية بها، وانحازوا إليها كما لو أنها تمثل قيمهم ومواقفهم المبدئية الأصيلة.!

هذه العملية تتم عفوياً بلا وعي، وتتضّمن "قتل العقل" حسب تعبير "جوست ميرلو" الذي أشار إلى أنها توجِد خضوعاً لا إرادياً، وتجعل الناس تتقبل سيطرة أي نظام لا عقلاني.

في المحصلة: لا لوم على هذه الكائنات والكيانات المتحولة.. انهيار النظام يجعل مراكز القوى التي حلت محل الدولة مادياً. تحل محلها ذهنياً. "من شل أمنا كان عمنا". ما يوجد حتى في عالم الحيوان. صغار بعض الحيوانات يمكن أن تتبعك بعد قتل أمها.. ظناً منها أنك البديل.!