كانت حصتها من 2020 قاسية ومؤلمة فقد أصابتها الجائحة والأوبئة والإرهاب والظلام وانفتح في وجهها صندوق الشرور بأكمله. عدن المدينة، التي تدفع أثمان فضائل وليس جزاء سيئات، أعطت الآخرين أجمل ما فيها وأعطاها الاخرون في المقابل أسوأ ما فيهم وكأنها تترجم رسالة تراجيديا عتيقة في زمن تعددت فيه الأقنعة الملونة واختلط كل شيء في كل شيء.. الدين والسلطة والحرب والربح وذوو المقام والأقزام والواعظون وخطباء الفتنة والمجاهدون والشياطين... جميعهم انطلقوا في هواء المدينة ودمائها. وعلينا أن نتخيل بأن كل طرف يرمي شباكه نحو عدن ليختلط (أيضاً) في زواياها منتج عجيب من كل مكونات الظلم والإرهاب والقهر.. ثم تذروه رياح الإعلام الموجه على رؤوس الشعب لتكتمل فصول الدوامة الدامية.
لكن أتدرون ما هو أشد إرهاباً من الإرهاب؟ إنه إعلام التضليل.. هو الأكثر قتامة في هذا الفضاء المفتوح على موجات التوظيف والتزوير والكذب. فكل كارثة تحل بعدن يقف ذلك الإعلام جاهزاً للتبرير بصوت واحد ومصدر واحد ونغمة واحدة وإيقاع واحد حتى إن الحروف المسنونة والنبرة البغيضة متشابهة وإن توزعت الأقلام والأصوات واختلفت الأسماء والأمكنة. تلك هي جهة الخطر الأكبر لو أن الناس يدركون. "تقتلني وتدخل جثتي وتبيعها".. تلك صناعة الرعب، وتصبح أكثر رعب حين تتم باسم الدين.
الجميع يدرك بأن هناك آلة اعلامية متيقظة الحواس نحو رائحة الدماء ولا يفوتها أي مصاب يحل بخصومها إلا وبادرت مندفعة إلى تبريره واستخدام الضحايا من البشر كأداة لحروبها.. حتى الجائحة ذاتها تم التقاطها بسنارة تلك الآلة الآفة... فلا قواعد في حروب من يوجهها ولا أخلاق أو دين يبرر وسائلهم.
عدن غير محمية تماماً من داخلها ولا من خارجها، ودول التحالف لم تضع عدن بعد ك"عاصمة للجنوب" ضمن حساباتها الاستراتيجية المتماسكة إلا في سياق الخيارات الممكنة أو المقايضات الضرورية فما تزال مشاريع تلك الدول عائمة وأياديها غير ثابتة حتى إن دبلوماسيتها فضفاضة في مواجهة الأخطار المحدقة بها. لهذا تظل عدن الجزء الحيوي في خارطة الصراع الإقليمي وتدفع أثمانا خارج أهدافها وخارج إرادتها. فهي منصة ل"تحرير صنعاء وعودة الشرعية إلى قصورها" وعلى عدن أن تثور لصنعاء حتى وإن لم يتحرك أهل صنعاء، وعليها أن تشارك محاربين لا هدف لهم إلا الاستيلاء عليها هي! لهذا تتلقى الضربات من داخلها ومن حولها ولا تستطيع أن تختار جبهتها لأن الرصاص تأتيها من كل جهة دون حماية حقيقية وفاعلة.. خاصة وإن السعودية التي تقود تحالفا، انكمش تحت مظلتها، مقيدة بالتزاماتها "لتفويض أممي" انقلبت عليه الأمم، وتمارس سياسة تشبه قِطَع أحجية يصعب تركيبها.
من جهة أخرى فإن الدول الإقليمية الراعية للمجموعات الدينية لأهداف سياسية لا تضحي بشيء من أجل دعم الشعوب الشقيقة إلا بما يشقيها ويعجل بزوال دولها وجرها إلى الفوضى والاقتتال، وهذا ما تفعله بعض منها بعدن عبر وسائلها سواء الإخوان أو أنصار الله فكلاهما يبحر في قارب الدين السياسي وما يحركهما في صنعاء وعدن هو ما يحرك نظراءهما في كل الأزمنة والأمكنة: الوصول الى السلطة ليقيموا حكمهم في أي جزء يبسطون عليه حتى على جزيرة في عرض البحر، فالسلطة هي بوصلتهم الروحية والسياسية أينما وجدوا.
وهكذا تتقاذف الأمواج مدينة النور تصعد وتهبط وفقاً لايقاع الأحداث حاملة رصيد ألم يفوق ألم العواصم ومظالم تفوق مظالمها فهي من المدن التي حملت في جيناتها السياسية شفرة الأزمة ومن المدن التي نشأت بين البحر والغاب ومن المدن التي تم ترحيل تاريخها إلى جوف كائن غامض اسمه الوحدة فغيبتها عصبيات باسم القومية والوطنية والدين... ومن المدن التي وضعها أخوة لها في غَيابة الجب ليلتقطها بعض السيّارة في طريقهم نحو المجهول.
والآن أكملت عدن عشريتها الغبراء "الثالثة" وهي تقاوم ذلك المجهول.. وما تزال رغم كل شيء تواقة للحرية والمدنية، إذ لا خيار لها سوى أن تبقى مدينة المستقبل.. فأهلها وإن أطالوا المكوث أمام هذا الحاجز إلا أنهم ليسوا "حفنة من ريح هبوب" بل هم من سيفاجئون العالم بعام الخلاص.