كان واضحاً منذ البداية أن الموافقة على تشكيل الحكومة، كجزء من استحقاقات إتفاق الرياض، لا يمثل سوى خطوة تكتيكية على طريق مواصلة التعطيل الذي لا يتوقف، بالضرورة، على رفض اسم رئيس الوزراء، ثم القبول به كرها، ثم التعطيل أشهر متطاولة رهاناً على أي متغير في جبهات المواجهة التي أصروا على تأجيجها ومضاعفتها والاستخفاف بأرواح ودماء المواطنين بما في ذلك أنصارهم، الذين أقنعوهم أنهم يموتون من أجل تحرير الوطن من الاحتلال "الإماراتي - السعودي".
لا بأس.. لقد تشكلت الحكومة، وأصرَّ رئيسها وأعضاؤها على الوصول إلى عدن، ولم يأبهوا لاستقبالهم بثلاثة صواريخ تفجرت على بعد أمتار من الطائرة التي كانت تقلهم، والتهمت أرواح العشرات وأضعافهم من الجرحى، لكن المتفننين في التعطيل بقي لسان حالهم يقول: "سنرى كيف ستشتغلون وأمر نجاحكم وفشلكم بأيدينا"!
ومن نافل القول إن تشكيل الحكومة لا يعني شيئا ما لم يقترن بنجاحات على الأرض تتصل برفع المعاناة عن الناس وتفعيل الخدمات وتوفير مرتبات موظفي الدولة وضباطها وجنودها والمتقاعدين، وإعادة الاعتبار للريال اليمني، وإعادة الأمن والاستقرار وإقامة العدل من خلال تفعيل القضاء والنيابة العامة، وقبل هذا وبعده سحب الجيوش الجرارة المعَطَلة منذ ربع قرن، إلى جبهات المواجهة مع الانقلاب والانقلابيين، كما ينص اتفاق الرياض، ومتطلبات كل هذا مقرونة بقرار ما يزال يتحكم به المعطِّلون، وهم يدركون كيف يستخدمونه للابتزاز ولي الأذرع حينما يشاؤون.
ولم يكتفِ هؤلاء بهذا، بل هاهم اليوم قد بدأوا يجسون النبض من خلال تسريبات يراد منها الاستفزاز من ناحية والابتزاز من ناحية ثانية، من خلال الحديث عن نقل العاصمة إلى شبوة، واستحداث إقليم (إقليم واحد فقط) حضرموت، وكل هذا أقرب إلى "لعب العيال" ومشاغبات الصبية سيئي التربية منه إلى سلوك الساسة المسؤولين الذين يحترمون معنى الممارسة السياسية وثقافة الاختلاف.
لست مكترثاً لموضوع نقل العاصمة إلى شبوة، ولو رأى رئيس البلاد وشركاؤه في الحرب على الحوثي وفي إتفاق الرياض ذلك فلهم هذا، لكن ما أخشاه أن يتحول الحديث عن العاصمة المؤقتة إلى ما يشبه النكتة غير المسلية، فقد يبرز من يطالب بنقل العاصمة إلى سيئون، وقد قالها أحد الأصدقاء الذين كنا نظنهم من الحكماء، وقال آخر إلى حي الجحملية بتعز، وثالث إلى الجزء الجنوبي من مدينة مأرب، وتستمر لعبة الكلمات المتقاطعة طويلا، وهي لعبة مملة ومقرفة وعبثية، لكن الناس يتعجبون للذين يتحدثون عن استحداث إقليم من بين أقاليم لم يتخذ بها قرار ولم تقرها أي هيئة تشريعية، باعتبار البلد لها برلمانان تجاوزا عمرهما بثلاث مرات، ويتميز برلمان الشرعية أنه، وخلال ست سنوات، لم يجتمع إلا اجتماعا واحدا تحت حماية مظلة واسعة من قوات الأشقاء.
نكتة الأقاليم أكبر عبثا وأقل تسلية من نكتة نقل العاصمة، فحتى مؤتمر حوار موفنبيك الذي انسحب منه ممثلو الجنوب والذي كلَّف الرئيس بتقديم تصور لموضوع الأقاليم لم يجتمع ليقر نتائج هذا التكليف، لكن الأهم أن هذه الأقاليم رفضها الشماليون قبل الجنوبيين، بكل أطيافهم، وقد كانت السبب في انقلاب سبتمبر 2014م وحصار الرئيس ونفيه وملاحقته واستمرار الحرب اللعينة حتى اللحظة، بما تركت من تداعيات مدمرة على الشعب في الجنوب والشمال ولم يستفد منها إلا المتحاربون، المقيمون والمهاجرون.
ويعرف الجميع أنه لا دستور ولا قانون ولا هيئة أعادت البت في الموضوع منذ اختطاف مسودة الدستور الذي لم يعلم به أحد، وكان الجنوب مغيبا من صناعته، ناهيك عن عدم عرضه للاستفتاء، لا هنا ولا هناك.
لماذا هذه الفقاقيع البالونية الجوفاء؟؟
بات واضحا أن هواة التعطيل، وهم أنفسهم المستثمرون في الحروب على مر تاريخ اليمن الحديث، لم يرق لهم السير نحو تطبيع الأوضاع في عدن وبقية محافظات الجنوب، لذلك يسرعون إلى وضع العصي في دواليب الشريك الجنوبي، لصنع ردود فعل متشنجة، كي يتخذوا منها ذريعة لمواصلة تعطيل بقية بنود إتفاق الرياض، ومن ثم إتهام الطرف الآخر بالتعطيل، فهم يتقنون التعامل بمقولة "رمتني بدائها.."
وعندما يتزامن هذا مع الحشود التي يسمونها "الشعبية" من تعز باتجاه منطقة المضاربة ورأس العارة، على طريق باب المندب، فإن اللعبة تتكشف على حقيقتها، وهي تعطيل طاقات وإمكانيات إنجاح عمل الحكومة والتخفيف من معاناة الناس، والتوجه نحو معارك، لا علاقة لها لا بأهداف "الشرعية" في التخلص من الانقلاب واستعادة الدولة لسمعتها التي أوصلها هؤلاء إلى ما دون الحضيض، ولا بأهداف التحالف العربي الذي راهن على هؤلاء الشركاء ولم يدرِ كيف يتخلص من الورطة التي أوقعوه فيها.
فقاقيع استحداث إقليم، (واحد فقط) مرفوضة من أبناء منطقته قبل غيرهم، ونقل العاصمة، هدفها التعمية على شيء آخر يريد فنيو التعطيل وهواة التخريب تنفيذه في الخفاء للإنقضاض، ليس فقط، على إتفاق الرياض والحكومة المشتركة والشركاء الجنوبيين والإقليميين فقط، بل إعادة بناء معادلة 7/7/1994م بوسائل أكثر فجاجة وأشد سماجة، ولكن أكثر حماقة وغباء، إذ لم يدرك هؤلاء أن معادلة 1994م لم يعد من الممكن تكرارها لا بشكل ملهاة ولا بشكل مأساة، إلا مأساتهم وحدهم.
* * *
كان أطرف ما قرأته هذا الاسبوع منشورا للصديق النائب حميد الأحمر يدعو فيه الرئيس المشير الركن عبد ربه منصور هادي إلى العودة قبل أن تفوته فرصة العودة.
لن أعلق على كل ما ورد في المنشور، فكل عبارة تستحق التعليق، بدءا بالحديث عن الإحتلال الإماراتي لعدن وسقطرى، وعدم الحديث عن صعدة والجوف والمحويت وذمار وما حواليها، وانتهاء بالدعوة لتنظيف جهاز الدولة "في المناطق المحررة من الأبواق والعملاء"، لكنني سأعلق على أمرين فقط من بين عشرات الأمور.
الأمر الأول: دعوة الصديق حميد الرئيس لمحاربة الفساد والفاسدين، حيث لم يحدد ما هو الفساد الذي ينبغي أن يحاربه فخامة الرئيس هادي، هل فساد النهب والسلب وتقاسم القطاعات النفطية بين كبار الناهبين، أم فساد العبث بالثروة السمكية وتقاسم سواحل الاصطياد بين أساطين السالبين؟
هل العبث بالإعانات الدولية والمواد الإغاثية والاتجار بها، أم فساد التهريب وإيصال الأسلحة للحوثيين عبر مناطق الجيش الوطني؟
هل فساد التجني على هذا الجيش بمئات الآلاف من الأسماء الوهمية ونهب كل مخصصات أصحابها ومتعلقاتهم؟ أم فساد تنازل هذا الجيش للحوثيين عن آلاف الكيلو مترات المربعة وتسليمهم المعسكرات مع الأسلحة والعتاد وكل متعلقات المعركة؟
هل الفساد في الداخل أم الفساد في الخارج؟ هل فساد ما قبل عاصفة الحزم وما قبل الانقلاب الحوثي أم فساد ما بعد الانقلاب والاستثمار في الحرب؟
والأمر الثاني: حينما طرح الزميل حميد أمام الرئيس عدة خيارات للمدن التي يمكن أن يعود إليها، منها شبوة الشموخ وسيئون ومأرب أو تعز، وكنت أتوقع أن يدعوه إلى عمران الأبية حيث قبائل حاشد الشرسة التي لديها من الشجاعة والشراسة ما ستحمي به رمز الجمهورية وشرعيتها، ممثلة برئيس الجمهورية.
أحييك يا صديقي العزيز وأحيي حماسك المرتفع لعودة فخامة الرئيس وحمايته من قبل الجيش الوطني في مأرب، كما قلت، وأود تذكيرك أن هذا الجيش لم يكن حاضراً أثناء حصار الرئيس في منزله نهاية ٢٠١٤م، وحينها لم يقاتل عنه إلا أفراد حراسته وأقرباؤه وأولاده وأحفاده الذين فقد منهم كما قال لي أكثر من ٣٠ شهيدا، ثم من يضمن أن هذا "الجيش الوطني" لن يسلم المساحة التي سيقيم فيها فخامة الرئيس على صغرها، بما فيها الرئيس للحوثيين الذين "يدورون له بالسراج" (كما يقول أهلنا في عدن)، مثلما سلمهم فرضة نهم ومحافظتي الجوف والبيضاء وثلاثة أرباع مأرب في أقل من أسبوع؟
نعم لعودة الرئيس هادي إلى العاصمة عدن، فهي المنطقة الآمنة الوحيدة، وهناك فقط سيجد الأمان والحماية مثلما وجدها في العام 2015م.. حينما تخلى عنه الجميع وتركوه وحكومته فريسة لبعض الصبية القادمين من كهوف وشعاب مران، ولاذ علية القوم بالفرار متنكرين.
* من صفحة الكاتب على الفيسبوك