لم تكن عملية اقتحام المستوطنين الصهاينة لساحة المسجد الأقصى وحرمان الكثير من المسلمن من أداء شعائر الصلاة في المسجد، لم تكن حادثة عارضة أو معزولة عن السياسات العامة لدولة إسرائيل العنصرية، فقد سبقتها عمليات اقتحام منازل المواطنين العرب في الشيخ جراح الحي القريب من المسجد، والاستيلاء عليها من قبل مستوطنين صهاينة كما هي العادة منذ عقود.
وقد تم كل هذا تحت رعاية وحماية الشرطة والجيش الإسرائيليين.
وعموما فإن تصاعد الأزمة الأخيرة بين الدولة الصهيونية والشعب الفلسطيني هو جزء من صراع أبدي يتصل بالقضية الفلسطينية الأم ونضال الشعب الفلسطيني من أجل استعادة أرضه وهويته وبناء دولته المستقلة.
لكن هناك واحد من المرتكزات السياسية للأحزاب والقوى السياسية الإسرائيلية يتمثل في أن التصعيد مع الفلسطينيين والأمعان في القتل والتنكيل والاعتقال وهدم المنازل هي واحدة من أدوات التنافس السياسي والدعاية الإعلامية الانتخابية والسياسية عموما.
كما إنها جزء من سياسات الهروب من الأزمات والاختناقات التي تمر بها السلطات الصهيونية وما تقتضيها من استحقاقات، منذ قيام دولة إسرائيل.
هكذا فعل بنجوريون، وليفي أشكول، وأبائبان وموشي ديان وجولدامائر وإسحاق شامير ورابين وغيرهم ويفعلها اليوم كما فعلها نتنياهو من قبل مرارا.
فما إن يدخل الحاكم الإسرائيلي في أزمة مع شعبه أو مع منافسيه السياسيين حتى يلجأ إلى سياسات القتل تجاه الفلسطينيين في محاولة لرفع رصيده السياسي لدى الناخبين الإسرائيليين.
وفي هذا الإطار تأتي حملة التصعيد الأخيرة التي ظن نتنياهو بأنه من خلالها سيهرب من الاستحقاقات التي تنتظره، وأهمها فشله في تشكيل حكومة ائتلاف، ما قد يقوده إلى المحكمة لمساءلته على اتهامات الفساد المثارة ضده منذ سنوات، والتي نجح في الإفلات منها بفعل الحصانة التي يمنحه إياها القانون الإسرائيلي كرئيس وزراء.
لندع هذا جانبا، ونتوقف عند مآلات الأزمة الأخيرة:
لا يمكن المقارنة بين أدوات القتل والتدمير الإسرائيلية وبين الإمكانيات المتواضعة التي يحاول بها الفلسطينيون في الضفة وقطاع غزة وحتى في الداخل الإسرائيلي، مقاومة العدوان والتمسك بالهوية العربية الإسلامية للمسجد الأقصى ومحيطه العربي.
فمن غير جدال أن إسرائيل تمتلك ما يمكنها من سحق كل حجر فلسطينية ناهيك عن كل كائن بشري فلسطيني، لكن ماذا أفرزت الأيام الأخيرة من المواجهة؟
• كان الفلسطينيون منقسمين فيما بينهم لكن العدوان الإسرائيلي وحدهم في مواجهة أعمال وجرائم حكام إسرائيل.
• وجهت إسرائيل آلاف المقذوفات القاتلة والمدمرة في وجه الفلسطينيين المدنيين وهم الأغلبية وأصابت الآلاف منهم بين قتيل وجريح، ومن بين القتلى أكثر من 28 طفلا وعشرات النساء والمسنين، لكنها لم تستطع قتل إرادة الشعب المؤمن بعدالة قضيته وأحقية هويته.
• كان المواطنون الإسرائيليون يشعرون بالأمان والاستقرار المصحوبين بالتبختر والكبرياء لدى كبار الصهاينة، لكن معظمهم اليوم يختبؤون في الملاجئ خوفا من وصول نيران المقاومة الفلسطينية إلى منازلهم.
ورغم تواضع الأرقام لكن قتلى وجرحى منهم قد أصابتهم هذه النيران، ولهذا مدلولاته وانعكاساته الكبيرة بالنسبة للمواطن الإسرائيلي.
• في الداخل الإسرائيلي أو ما يسمى مناطق 48 كان المواطنون العرب يقاومون السياسات الإسرائيلية وفقا للقانون الإسرائيلي العنصري الجائر، لكن اندلاع الأزمة الأخيرة دفعت كل عرب مناطق ما يسمى بــ"الخط الأخضر" إلى خوض المواجهة المباشرة مع قوات الأمن الاسرائيلية.
وتوقع بعض الخبراء ومنهم محللون إسرائيليون أن حربا أهلية داخل إسرائيل قد تندلع بين العرب واليهود بسبب هذه الأزمة.
• أحد الكتاب الصهاينة نشر مقالا عنصريا كالعادة حول الأزمة الأخيرة، لكنه كشف أن اقتحام المسجد الأقصى كان خطوة متهورة وغير مدروسة من قبل حكام إسرائيل، وكشف أن الذعر يعم المجتمع الإسرائيلي.
وختم بالقول: لم يعد أمامنا إلا الهروب من هذه الأرض التي ينتشر فيها الإرهابيون العرب، والبحث عن مواطن استقرار جديدة في أوروبا وأمريكا.
• ولكي لا نبالغ في الرهان على هذا التصور لمعرفتنا أن النظرية الصهيونية تقوم على دولة إسرائيل الكبرى، لكن علينا أن نعلم أن ما قاله هذا الكاتب ليس موقفاً فرديا بل إنه شعورٌ عامٌ يدور لدى الأوساط من مواطني إسرائيل الذين قدموا من بلدان يسودها الأمان والاستقرار والوئام الاجتماعي، ليستقروا في دولة لم تعرف السكينة يوماً ولا تعيش إلا في أجواء الحرب.
• نتنياهو الذي أراد أن يدخل الانتخابات المبكرة المتوقعة، بانتصار جديد يجبر فيه الفلسطينيين على الاستسلام ويفوز فيه بالأغلبية المريحة، لكنه اليوم يستنجد بأصدقائه لإنقاذه من الورطة التي وقع فيها، ومن حيث أراد كسب الانتخابات المبكرة المتوقعة، في حال فشل تشكيل حكومة ائتلافية فإنه قد يخسر تلك الانتخابات، ولا يأوي إلا إلى قفص الاتهام، بانتظار حكم المحكمة.
• الرئيس الأمريكي العجوز بايدن يقول ما سبق وأن قاله أسلافه (الجمهوريون والديمقراطيون) إن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، لكن رئيس قلعة الديمقراطية الأولى في العالم، لم يقل شيئا عن تدمير منازل الفلسطينيين والاستيلاء على أخرى وقصف المدن وهدم المباني فوق سكانها، والاعتداء على المصلين وهم يمارسون طقوس العبادة، وهل هذا يدخل في إطار دفاع إسرائيل عن نفسها؟ وهل من حق هؤلاء الضحايا أن يدافعوا عن أنفسهم؟؟
الرهان على كسر إرادة الشعب الفلسطيني رهان خاسر، فمهما تفوقت إسرائيل في امتلاك أدوات العدوان والقتل، فإن الشعب الفلسطيني يتفوق بما لا تمتلكه إسرائيل وهو الإيمان بعدالة قضيته، والتمسك باستعادة أرضه وهويته، وقد يطول الزمن. ربما، وقد تكون التضحيات مكلفة، للأسف. ربما، لكن ذلك هو قدر الشعوب التي تؤمن بحريتها وتتمسك بتقرير مصائرها واستعادة حقوقها.
كل التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وكل الإدانة والاستنكار لما تقوم به دولة إسرائيل من سياسات بحق العرب الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين، والرحمة للشهداء، والشفاء للجرحى.
والعار للعدوان ودعاة العدوان والعنصرية.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك