د. صادق القاضي
"البردُّوني".. المخفي قسرياً: عن مخطوطاته المفقودة وأعماله المحرومة من الطبع!
ربما ليست مجرد مصادفة أن يتزامن "اليوم العالمي لضحايا الإخفاء القسري"، في الـ30 من أغسطس كل عام، مع ذكرى وفاة الشاعر العربي الكبير، والكاتب اليمني الشهير "عبدالله البردوني"(1929م- 1999م) فهذا الرجل الفذ هو ــ من حيث أعماله الشعرية والنثريةــ أحد أهم وأبرز ضحايا الإخفاء القسري في تاريخ الأدب العربي.
إثر وفاته. ذكر المقربون منه أنه ترك أعماله المخطوطة في صندوقه الخشبي الذي كان يحرص على تأمينه جيداً، ذكر هؤلاء عناوين بعضها، كما وردت في مناسبات متفرقة عناوين أخرى، ومن كل ذلك نستخلص القائمة التالية:
1- رحلة ابن من شاب قرناها. (ديوان شعر)
2- العشق على مرافئ القمر. (ديوان شعر)
3- أحذية السلاطين. (ديوان شعر)
4- العم ميمون. (رواية)
5- الجمهورية اليمنية. (فكر سياسي)
6- الجديد والمتجدد في الأدب اليمني. (أدب ونقد)
7- أحياء في القبور (تراجم)
8- المستطرف الحديث. (مقالات)
9- السيرة الذاتية.
يمكن التشكيك بصحة بعض هذه الأعمال، وافتراض أن للبردوني أعمالاً أخرى لم تذكر في هذه القائمة، وفي كل حال أشار "البردُّوني" نفسه إلى بعض عناوين هذه المخطوطات في حياته، ونشر بعضها على شكل مقالات في بعض الصحف، كما وردت في تصريحات بعض المقربين منه، ومقابلاتهم التي لا تخلو من بعض الفجوات والتناقضات، ومنها جميعا يمكن وضع تصور عن الأعمال المفقودة للبردوني كالتالي:
• ديوانا "العشق في مرافئ القمر" و"ابن من شاب قرناها":
تضمّن هذان الديوانان معظم نتاج البردوني الشعري غير المطبوع، وحسب بعض المقربين منه فقد كان الديوانان من ضمن ثلاث مخطوطات منسوخة ومجهزة للطبع، واختفت من صندوقه الخشبي ليلة وفاته، وإن تبين لاحقا أنها موجودة وفي حوزة كثير من الأشخاص والجهات:
في مقدمة "الأعمال الشعرية الكاملة" للبردوني، طبعة صنعاء عاصمة الثقافة 2004. ورد بقلم الأستاذ خالد الرويشان، وزير الثقافة الأسبق أن هذين الديوانين كانا قد أصبحا في حوزة الوزارة وجاهزين للطبع عندما قامت وزارته بإصدار هذه الطبعة التي تضم 12 ديوانا، لكنه أرجأ طباعتهما كي يأخذا حقهما من الاحتفاء ثم يتم طباعتهما في الطبعات اللاحقة.!
لاحقاً، وخلال حفل عام لوزارة الثقافة في عهد الوزير عوبل. حضره بعض أقرباء الشاعر وكثير من أصدقائه ومحبيه، وغطته وسائل الإعلام، تم الإعلان عن كون هذين الديوانين قد أصبحا في حوزة وزارة الثقافة التي تكفلت بطباعتهما حينها عام 2012م.
من جهته ثالثة. صرح "علوان الجيلاني" المسئول في "اتحاد الأدباء اليمنيين"، أن "مؤسسة العفيف الثقافية" تمتلك نسخة من الديوانين، وأنها كانت على وشك طباعتهما، وأنه تكفل شخصيا بمراجعتهما، غير أن الأستاذ "أحمد جابر عفيف" صاحب المؤسسة تلقى تهديدا شديد اللهجة من جهة مجهولة بإغلاق المؤسسة إذا فكر بطباعة الديوانين.!
ثمّ هناك أكثر من شخص يملك نسخاً من هذين الديوانين، بالشكل الذي يفسر تسريب بعض من قصائدهما ونشرها في الملاحق الأدبية، حيث بإشراف الشاعر "عبد المجيد التركي" تفرد الملحق الثقافي لصحيفة "اليمن اليوم" بنشر قصيدة "ابن من شاب قرناها" لأول مرة، كما يقوم الشاعر محمد القعود بين فترة وأخرى بنشر قصائد لم تنشر سابقاّ للبردوني، في ملحق "الثورة الثقافي".
يبدو من هذه القصائد القليلة المسربة أن ديوان "العشق في مرافئ القمر"، بمثابة كشكول لقصائد قديمة حرمت من الطبع لسبب أو لآخر، ربما من أجل طباعتها في ديوان مستقل، كما يبدو من القصيدة المسربة من ديوان "ابن من شاب قرناها" والتي تحمل نفس العنوان، كون هذا الديوان يضم القصائد الأحدث للشاعر، ولأن عادة البردوني في عنونة دواوينه بعناوين أهم قصائدها، يمكن القول إن هذه القصيدة أهم قصائد الديوان.
يتوجب على القائمين على الملحقين توضيح مصدر هذه القصائد المسربة، في حين تقع المسئولية بشكل خاص على عاتق وزيري الثقافة السابقين الرويشان وعوبل. وتظل القضية عالقة معقدة، وما يمكن الحديث عنه بثقة أن لهذين الديوانين نسخا كثيرة في حوزة أكثر من جهة وأكثر من شخص كلهم حسب الظاهر من عشاق شعر البردوني. ما يجعل إخفاء الديوانين وحرمانهما من الطباعة مسألة لافتة حافلة بالكثير من الغموض والمفارقة.!
• ديوان"أحذية السلاطين":
يُفترض أن قصائد هذا الديوان تنتمي إلى بداية سبعينيات القرن الماضي، إذ يُقال إن "البردُّوني" رهن هذا الديوان الشعري لدى طبيب أو رجل أعمال سوري من أجل دفع تكاليف علاج زوجته الأولى التي توفيت عام 1975.!
لم تذكر المصادر أيّ معلومات مفيدة عن هذا الرجل السوري، كما قيل إنه أعاد الديوان إلى "البردُّوني"، وفي كل حال إذا صحت الأخبار عن هذا الديوان. فهو جدير بوضعه في رأس قائمة الأعمال المخفية للبردوني.
• "العم ميمون". (رواية):
من المؤكد أن هذه الرواية اليتيمة. كانت جاهزة منذ عام "1992م"، قال عنها "البردُّوني" في مقابلة مع صحيفة (الثقافيـة) "نُشرت في العدد السابع الصادر بتاريخ 2 سبتمبر 1999م". إنها: "مراجعة وجيدة، وعندما تجد مخرجاً ستخرج إلى الناس؛ لأنها تحتاج إلى فلوس أكثر مما ينبغي"!
• "الجمهورية اليمنية":
هو كتاب في الفكر والتاريخ السياسي الحديث في اليمن، ويبدو امتداداً لكتابه الشهير "اليمن الجمهوري"، ويفترض أنه يضم كتابات منشورة في بعض الدوريات، عمل "البردُّوني" على جمعها وتنقيحها، وإعدادها للطبع في كتاب.
• "أحياء في القبور". (تراجم):
كان بعنوان "رجال في القبور" ثم عاد "البردُّوني" واستحسن له عنوان: "أحياء في القبور"، وهو كتاب في التراجم يتناول بعضا من أعلام الأدب والفكر في اليمن. لم تنشر مواده في أيّ دورية في حياة الشاعر.
• "المستطرف الحديث":
ويضم مقالات أسبوعية كانت تنشرها "صحيفة الوحدة" تحت هذا العنوان العام، وتعالج قضايا الواقع اليمني خلال حياة البردوني. من زاوية ثقافية.
• "الجديد والمتجدد في الأدب اليمني":
كان هذا المخطوط مكوناً من نحو "ألفي صفحة" ويبدو أن "البردُّوني" كان يعمل عليه منذ ثمانينيات القرن الماضي، ويتضمن "دراسات نقدية شاملة لنصوص الحداثة الشعرية في اليمن".
• "السيرة الذاتية":
سماها البردوني "تذكراتي". وكان ينشرها خلال حياته على شكل مقالات في صحيفة 26 سبتمبر، وتكمن أهميتها بجانب كونها سيرة ذاتية للشاعر، في كونها شهادة على العصر، توثق للتاريخ اليمني الحديث، من جوانب مختلفة.
من حسن حظ هذه المذكرات -مقارنةً بالأعمال الأخرى أعلاه- أنها هي العمل الوحيد الذي تم انتشاله من الضياع حتى الآن. إذ قام الشاعران: عبد المجيد التركي ومحمد القعود.. مؤخراً بجمعها ونشرها في كتاب كبير بعنوان "تبرج الخفايا ولفيف من الذكريات" صادر عن دار "وسم للنشر والتوزيع 2021م.
الجدير بالانتباه هو أن معظم هذه الأعمال المفقودة للبردوني، كان يمكن حمايتها من الضياع بطباعتها في حياة مؤلفها، خاصة وبعضها مرت عليها سنوات طويلة دون أن تجد طريقها إلى المطبعة. ما يحمل "البردُّوني" نفسه جزءاً من المسئولية، وفي الواقع يمكن ملاحظة أن "البردُّوني" نفسه لم يكن متحمساً كثيراً لطباعة بعضها، فيما حالت حالته المادية المتواضعة من طباعة بعضها الآخر.
لكن الجزء الأكبر من المسئولية يقع على عاتق أصدقاء "البردُّوني" المقربين منه، والذين كان يستعين بهم في كتابة أعماله والجوانب الفنية الأخرى، مثل عبد الإله القدسي ومحمد الشاطبي، وأيضاً زوجة "البردُّوني" الثانية "فتحية الجرافي" وكذلك الدولة.. كل هؤلاء على المحك هنا كشهود أو كمتهمين في هذا الإخفاء القسري لتراث "البردُّوني" المفقود.
ليلة وفاة "البردُّوني" صرح الشاطبي بأن: "كل الأعمال الخاصة بالراحل موثقة ومحفوظة لدى مكتبة الكونجرس"! لكن "عبدالإله القدسي" من جهته نفى صحة هذا التصريح، وقام بتأويل مقاصد صديقه الشاطبي منه، مؤكداَ أن "البردُّوني" توفي ومفتاح صندوقه مُثبت على خصره، وأن: "الصندوق قد تم فتحه وإخلاؤه من جميع البحوث والكتب غير المنشورة.. ومصادرة مخطوطاته بعد ساعة من وفاته.
بدورها قالت "فتحية الجرافي" إنها سلمت المخطوطات إلى "ذوي الشأن في الدولة"! لكن القدسي يشكك بإفادتها، مؤكداً أنه: "على ثقة بأنها "المخطوطات" ما زالت في صندوق "البردُّوني"، الذي انتقل المفتاح الخاص به بعد موته إلى زوجته الثانية، والتي امتنعت بدورها عن تسليم الصندوق"!!
المؤكد عموماً أن للبردوني أعمالاً مخطوطة مفقودة، اختفت يوم وفاته في ملابسات غامضة أنذرت بخسارة فادحة على الشعر والأدب والثقافة اليمنية المعاصرة، ومن المثير للشعور بالمرارة أن هذه الكتب المخطوطة ما تزال رغم كل المطالبات والمناشدات ذات العلاقة مخفية قسرياً منذ عام 1999م..!!
إنها قضية تتعلق بنتاجات عقلية يمنية جبارة، على أصعدة الفن والأدب والتاريخ والسياسة والنقد.. قضية تتعلق بتراث إنساني مهم، وثروة قومية ويمنية نفيسة، لا يجوز التعامل مع اختفائها بصمت، أو لا مبالاة..
وأياً كان المسئول أو المسئولون عن هذا الإهمال أو الإخفاء المقصود. فالقضية مهمة وحساسة للغاية.. وتستحق منا جميعاً بعض الاهتمام والتضامن الثقافي والإنساني والسياسي المبدد عبثاً هنا وهناك..!