انتصار الحمادي.. حرية ناقصة في مدينة الخوف
السياسية - منذ ساعتان و 32 دقيقة
صنعاء، نيوزيمن، خاص:
في مشهد يختلط فيه الفرح بالحسرة، أفرجت ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران عن الفنانة اليمنية انتصار الحمادي، بعد خمس سنوات من الاحتجاز القسري في صنعاء في واحدة من أكثر القضايا التي هزّت الضمير الإنساني وأثارت الجدل حول واقع الحريات والتمييز ضد النساء في مناطق سيطرة الجماعة.
لم تكن انتصار، المولودة في تعز عام 2001، تدرك أن طريقها نحو التمثيل والأزياء سيقودها إلى غياهب الزنازين. ففي أواخر فبراير 2021، أوقفتها دورية حوثية في شارع حدة، أثناء توجهها إلى جلسة تصوير برفقة صديقاتها، ليبدأ فصل طويل من القهر والتنكيل انتهى بحكم قضائي جائر قضى بسجنها خمس سنوات، إلى جانب ثلاث فتيات أخريات، في محاكمة وصفتها منظمات حقوقية بأنها "صورية ومليئة بالانتهاكات".
وخلال فترة احتجازها، تعرّضت انتصار لتعذيب جسدي ونفسي، شمل كسر أنفها والضرب المبرح والتهديد بإجراء فحص عذرية قسري، وفق تقارير موثوقة صادرة عن منظمات دولية، ما دفعها لمحاولة الانتحار مرتين، قبل أن تُنقل إلى الحبس الانفرادي بعد ظهور آثار العنف عليها. وتدهورت حالتها الصحية بشدة نتيجة الإهمال الطبي والمعاملة القاسية.
انتصار التي بدأت مسيرتها الفنية كعارضة أزياء عام 2017، ثم كممثلة في أعمال درامية مثل "سد الغريب" و"غُربة البن"، أصبحت رمزًا لمعركة المرأة اليمنية ضد سلطة القهر والتمييز. كانت تحلم، كما قالت في إحدى المقابلات قبل اعتقالها، بـ"يمنٍ يتسع للضحكة، لا يخاف من المرأة القوية ولا يطارد الفرح". لكن هذا الحلم تحوّل إلى كابوس حين وجدت نفسها متهمة فقط لأنها "اختارت أن تكون كما هي".
وفي تعليق مؤثر، كتب الكاتب والصحفي خالد سلمان نصًا إنسانيًا يرثي فيه انتصار وما تبقّى منها بعد سنوات السجن، قائلاً: "نحتفل بخروج جثة من أسر الخطف، نحتفي بأشلاء ممزقة تغادر قضبانًا أكلت عمرها، سوط نهش في لحمها، ومطاردة ساحرات دمرت منظومتها النفسية. نحتفل بإطلاق الخاطف بعد أن أكملت انتصار محكوميتها القهرية الظالمة."
ويمضي سلمان في نصه كاشفًا مأساة أعمق من مجرد اعتقال فردي: "ماذا أبقوا لانتصار كي تتملكها الزهو وهي تتنفس نسمات حرية زائفة لم تعد تمتلكها؟ ماذا خسرت انتصار، بل ماذا خسرنا نحن بتركها عشاءً لصدأ قفص الزنزانة ومأدبة للجدران الرطبة؟ لم ننتصر لفتاة كانت ضحكتها فراشًا ملونًا، أدرنا ظهرنا وأهديناها لجماعة الموت رواد طحن الفرح."
ويختتم الكاتب تعليقه بمشهد قاسٍ يلخّص مأساة مجتمعٍ صامت أمام الظلم: "انتصار لعنة في وجه منظمات الحقوق، وصمة عار في جبين السياسة، غصة تغرقنا جميعنا بالعجز حدّ الاختناق... هذا الذي نزع جناحيكِ ليس وطنكِ يا انتصار. على الإنسانية أن تمنحك وطنًا بديلًا، حيث تتفتحين مجددًا وتزهرين وتنثرين عبقك خارج هذا المستنقع، بعد أن باركنا موتكِ وقلنا للجلاد: هذا اللحم الطري لك، افعل به ما تشاء."
إطلاق سراح انتصار الحمادي لا يعني نهايتها، بل بداية مرحلة جديدة من المواجهة مع مجتمعٍ قاسٍ، ونظامٍ جعل من الفن جريمة، ومن الجمال تهمة، ومن المرأة هدفًا للترهيب. قصتها، كما تقول ناشطات يمنيات، لم تعد حكاية شخصية، بل وثيقة إدانة لنظام يعادي الحياة. وبرغم الجراح التي خلّفها السجن، تبقى انتصار شاهدًا حيًا على أن القيد لا يلغي الذاكرة، وأن صوت المقهورين يمكن أن يتحوّل إلى شهادةٍ ضد الصمت.
فيما يرى الكاتب والإعلامي هزاع البيل أن الحديث عن "إفراج" ميليشيا الحوثي عن الفنانة انتصار الحمادي لا يحمل أي معنى للرحمة أو العدالة، بل هو ـ على حدّ وصفه ـ “نهاية حكمٍ ظالم وجائر” صدر عن سلطة أمر واقع مارست الخطف والتنكيل كأسلوب ممنهج ضد اليمنيين.
يقول البيل إن الحوثي لا يعرف فعل "الإفراج" في قاموسه، لأن من اعتاد على القمع لا يمكن أن يمنح الحرية طوعًا. ويضيف أن الميليشيا "ملأت سجونها باليمنيين ظلمًا وعدوانًا، رجالًا ونساءً، في جرائم لا تُعد ولا تُحصى"، معتبرًا أن ما حدث مع الحمادي ليس سوى وجه من وجوه مأساة أكبر تطال آلاف المحتجزين والمختفين قسرًا في سجون الجماعة.
ويشير البيل إلى مفارقة مؤلمة: “بالأمس أفرجت المليشيا عن انتصار الحمادي، لكنها لم تترك المكان خاليًا”، في إشارة إلى اختطاف موظفة برنامج الغذاء العالمي حنان الشيباني من منزلها في صنعاء رغم حالتها الصحية الحرجة بعد ولادة مبكرة ووفاة جنينها. ويختتم بالقول إن “ما حدث يجسد طبيعة الميليشيا التي لا تعرف الإنسانية ولا تملك ضميرًا، ولا ترى في الناس سوى أدواتٍ للابتزاز والبطش”.
في تعليق ساخر يحمل مرارة الواقع، كتب الناشط الإعلامي رشاد الصوفي أن الميليشيا الحوثية "أخرجت الحمادي وأدخلت الشيبانية"، في تلخيصٍ لدوامة القهر المستمرة التي تعيشها النساء في مناطق سيطرة الجماعة.
ويقول الصوفي إن اليمنيين بالكاد انتهوا من قراءة خبر الإفراج عن انتصار الحمادي حتى فاجأتهم الميليشيا بخبر اعتقال جديد هي الموظفة في برنامج الغذاء العالمي حنان الشيباني. ويختم بتساؤلٍ ساخرٍ لاذع: "ما تقدر تخلي الزنزانة حتى يوم فاضية يا حوثي؟"، في تعبيرٍ بليغ عن استمرارية نهج القمع واستحالة أن يمر يوم دون ضحية جديدة.
تعليقه الذي جاء بلغةٍ عامية تحمل سخرية سوداء، يعكس شعورًا عامًا لدى اليمنيين بأن كل بادرة انفراجٍ تُقابل بجرحٍ جديد، وأن آلة القمع الحوثية لا تتوقف، بل تتغذى على الخوف وتستبدل الضحايا كما تُبدَّل الأسماء في سجلاتٍ طويلة لا تنتهي.
من جانبه، يرى الناشط سعيد محمد سعيد أن الفنانة انتصار الحمادي تمثل "رمزًا للمرأة اليمنية الحرة التي دفعت ثمنًا باهظًا لأنها رفضت الخضوع والابتزاز". ويصفها بأنها "شهادة حيّة على قبح السلطة واستباحة الكرامة في هذا العهد الثقيل"، مشيرًا إلى أن قضيتها لا تخصها وحدها، بل تجسّد مأساة نساءٍ كثيرات تم سحقهنّ تحت شعارات زائفة عن الدين والأخلاق.
ويضيف سعيد أن الحمادي، التي قضت خمس سنوات في سجون الحوثي، لم تفقد فقط حريتها، بل خسرت جزءًا من عمرها في مواجهة منظومةٍ قمعية تعتبر الفنّ خطيئة والمرأة خطرًا. ومع ذلك، يرى أن خروجها اليوم هو بمثابة شهادة انتصار رمزية للمرأة اليمنية، التي لا تزال تقاوم، بالكلمة والجرأة، كل أشكال الإذلال والتمييز.
ويؤكد الناشط ربيع صبري: "لن تكتمل الفرحة الحقيقية حتى تغادر انتصار صنعاء ومناطق سيطرة الميليشيا الحوثية". موضحًا أن ما يعيشه المختطف في سجون هذه الجماعات الإرهابية لا يحتمل".
وقال: "شتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي، سنوات سوداء تتحول فيها الأيام إلى دهور، ولا يكاد ينجو إنسان من شظاياها إلا حين يغادر المكان الذي يحمل اسم الجحيم. أبسط شيء يذكّر بالزنزانة يعيد الإنسان إلى حالة الموت البطيء، لذا لا بد أن تغادر انتصار إلى بيئة آمنة بعيدًا عن أي ذكرى للميليشيا، لتجد فيها الرعاية الطبية والدعم النفسي والمكان الذي يساعدها على استعادة ذاتها والعودة للحياة".
>
