حقائق جديدة عن موروث البردوني المخفي والمتنازع عليه

السياسية - Saturday 27 February 2021 الساعة 08:20 am
نيوزيمن، كتب/ عبدالرقيب الوصابي:

يحاول بعض مثقفي الوطن اليوم إظهار زوجة البردوني الثانية/ فتحية الجرافي على أنها سيدة لاقت الأمرين بعد وفاة زوجها وتجرجرت في المحاكم مع ورثة البردوني من أجل بقائها في منزلها الذي لم تعد تملك إلا إياه.

يظهرون اهتماما عابرا بها وتواصلا معها بين الحين والآخر للخروج بعد كل لقاء يجمعهم بها بلقاء صحفي يفتقر إلى الشفافية و المصداقية تصب محاوره في البحث عن ديواني الشاعر "العشق على مرافئ القمر _ ورحلة من شاب قرناها"، متجاهلين في التوقيت ذاته التحاور معها بخصوص كتب الراحل الفكرية والسياسية و النقدية، ولعل هذا التجاهل مقصود ربما لأن المشهد الثقافي اليمني لا يزال أقرب إلى الشعر منه إلى النقد والفكر والكتابات السياسية المعتبرة.

ومن اللازم هنا التأكيد على أن الشاعر، عبد الله البردوني ظلم كثيرا، ظلم حيا وظلم ميتا، ولعل الزاوية الأوسع التي انصب منها الظلم على البردوني صبا تتجلى _دائما_ من جهة تسويقه على أنه الشاعر المختلف المتمكن من أدواته التعبيرية وما ينماز به من خيال خصب، وهذه حقيقة مطلقة وأجدها من أقدس المسلمات، وخطاب قصائده الشعرية المطبوعة أو المخفية قسرا يؤكد ذلك، وتفوح عن قصائده الشكوى من الزمان والتعبير عن مأساة الإنسان، والتأوه من ضيق الحال.. ولكن هذا لا يسوغ لنا _البتة_ غض الطرف عن إرثه الفكري والنقدي وكتاباته السياسية.

البردوني شاعر تجاوز حدود القبيلة وتقاليد القصيدة، تحدى نفسه وكانت له مع كل مجموعة شعرية جديدة بصمة تكشف عن عمق وعيه وتحوله المعرفي؛ وهو شاعر امتلك العبارة الثورية والأداء الفني وأخضع القصيدة لأن تعالج التراث وتمتد إلى الأصالة، وجمع بذكاء بين ما نسميه الهمس التعبيري والعنف التوتري في محاولة لخلق وعي اللحظة الراهنة، ولكني أعتقد في هذا المقام أن مجموعته الشعرية غير المطبوعة "العشق على مرافئ القمر" التي يلح المثقفون في البحث عنها هي عبارة عن مجموعة من القصائد التي تعود بنا إلى المرحلة الأولى من مراحل تحولات الكتابة الشعرية؛ أعني مرحلة استبطان الذات ونتاج تأثير المدرسة الرومانتيكة، وقد تكون قصائد لم يرض عنها الشاعر، أي أنهن القصائد المفلترة، أما بالنسبة لقصائد المجموعة الأخرى فسوف أتحدث عنهن في آخر هذه المقاربة.

ولكن لماذا ينبغي علينا التركيز والانشغال بالبحث على كتب البردوني النقدية والفكرية أكثر من اهتمامنا بالبحث عن المجموعتين الشعرية؟.

والجواب لأننا إذا تمكنا من العثور على مجموع هذه الكتب فإننا سنكون على موعد لإثراء الثقافة اليمنية، وسنجد فيها ما نسد به تصدعات مجتمعنا وتصحيح الأخطاء الماضية التي سمحنا لها بالنمو يوما وراء يوم، وحتما سنجد من الحلول والمعالجات الحكيمة ما يوصلنا إلى تجاوز البؤس الذي نعيشه ويستبد بنا، إضافة إلى ما في هذه الكتب من تتبع وبحث واستشراف واستنتاج ومعالجات حكيمة والقبض على الحاسة المستقبلية التي مكنت البردوني من استشراف كل ما هو آت.

فمثلا، "شاعرية الزمان والمكان في الشعر العربي" كتاب البردوني هذا الذي لم ير النور بعد ولا يتداول المهتمون شيئا من أخباره مع أن البردوني بشر به وتحدث عنه في أكثر من موضع، وعنوان هذا الكتاب يوحي عبر إشارات البردوني اللغوية بأهمية هذا المنجز الفكري الذي قد يتجاوز من حيث القيمة والأهمية "الثابت والمتحول" لأدونيس من جهة الغوص العميق في مدونة الشعر العربي بحثا عن السر الشعري وخصائص التعبير الشعري من خلال شاعرية الزمان و المكان.

أما بالنسبة لما أطلق عليه البردوني ثمرة حياتي ويقصد به كتاب "الجديد والمتجدد في الثقافة اليمنية" وهو للأسف من الكتب المختفية قسرا، وإذا أعاد القارئ الذكي قراءة عنوان الكتاب فإنه لن يخفى عليه إلى أي مدى كان الشاعر/ عبد الله البردوني مأخوذا بفكرة الجديد والمتجدد، ونجد أنه بث الكثير من الرؤى المتعلقة بالجديد والمتجدد في كتب أخرى له كإجراء يأتي ضمن التسويق للمشروع الذي كان يشتغل عليه البردوني "الجديد والمتجدد" من خلال التطبيق على الثقافة اليمنية، بل إن البردوني من أجل اكتمال هذا المشروع الفكري حرص على أن يقرأ التراث كله ولا يغادر أي شيء منه أو أن يقفز عليه تمهيدا واستعدادا للوصول إلى الحلم المنشود. وقيمة هذا المشروع النقدي تكمن في التتبع و الاستقصاء والبحث لمظاهر الجديد والمتجدد ابتداء من "الحضارة المعينية" إلى اليوم.

وكتاب "الجمهورية اليمنية" تكملة لليمن الجمهوري، وفيه تحليل للأخطاء الكارثية التي رافقت تحقيق الوحدة، ومن خلال اللقاءات والحوارات الثقافية التي أجريت مع الشاعر البردوني في مجلات عربية نجد أن البردوني يسرب بعض القضايا التي تم معالجتها في هذا الكتاب.. إذ أكد الشاعر أن الوحدة اليمنية قائمة على وحدة النظام السياسي ما بين شطرين مع وجود تشابه ثقافي واجتماعي إلى حد ما، غير أن الوحدة اليمنية قد أعادت بقوة الحساسية القبلية والعشائرية بين شطرين، الشمالي منه تتحكم فيه السلطة القبلية، بينما الجنوبي هو أقرب إلى المعاصرة والمدنية، ومع هذا التشخيص يصبح القرب أشد خطورة من البعد وأن الأمر ليزداد سوءً مع غياب العنصر المغير "المال" وبروز مظاهر التخلف النفطي، إضافة إلى تجذير دعائم التخلف الاقتصادي، واقترح البردوني أن الخلاص الحقيقي لإنقاذ الوحدة اليمنية يكمن في تعزيز حساسية المشاعر الشعبية بين النقابات والمؤسسات والأحزاب وتحول "اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين" إلى نقابة جماهيرية تقترب من كل شرائح الشعب باعتبار الشعب أقوى من السلطة ثقافيا واجتماعيا.

وبالعودة إلى المجموعة الشعرية الأخرى "رحلة من شاب قرناها" يبدو أن حساسية هذه المجموعة تكمن في كونها تضم عددا من قصائد الهجاء التي ربما كتب بعضها في فترة متأخرة من حياته، أما البعض الآخر منها فتم صياغتها في وقت مبكر من حياته، و لعل هذه الفرضية هي التي دفعت بالأخ الشاعر/ محمد القعود لانتقاء مجموعة من القصائد تقترب من السقف الشعري الذي يعرفه الجمهور للشاعر/ عبد الله البردوني.. كما أن الفرضية ذاتها تؤكد صحة ما تناقلته وسائل الإعلام في سنوات سابقة عن الناقد اليمني/ علوان الجيلاني الذي أكد في تصريحه أن مؤسسة العفيف الثقافية كانت على وشك طباعة المجموعتين "العشق على مرافئ القمر _ رحلة من شاب قرناها" وأنه تكفل شخصيا، بمراجعة المجموعتين الشعريتين غير أن الأستاذ/ أحمد جابر العفيف تلقى اتصالا غاضبا من جهة مجهولة يتوعده بإغلاق المؤسسة إذا فكر بطباعة المجموعتين الشعريتين للشاعر البردوني. 

أما ماذا عن مصير هاتين المجموعتين، فقد بلغني أنه تم عرضهن للبيع على إحدى المنظمات الناشطة مقابل مبلغ مادي قدره "5000" $ وبعد المفاوضات بين الطرفين اعتذرت المنظمة عن الشراء لأسباب خاصة وهو ما دفع الطرف الآخر لمواصلة عرض البيع على جهات أخرى داخل الوطن وخارجه.

وحتى لا تضيع جهود المحبين للشاعر البردوني هدرا ويخبو حماس متابعتهم وبحثهم عن الكتب المخفية قسرا فما زلت أؤكد على ضرورة البحث عن كتب الشاعر الفكرية والنقدية وكتاباته السياسية.

"خارطة طريق"

يقول البردوني في قصيدته “الطواف” وهي بالمناسبة من القصائد التي لم تنشر إلا عبر تسريبات صفحات الملحق الثقافي التابعة لصحيفة الثورة. 

يقول البردوني:

نَمَا إلى (الشَّيْخِ) أَنِّي شَاعِرٌ.. فَدَعَا

“أمَانةَ الحِفظِ” تُعْطِيهِ دَوَاوِينِي

وقَالَ مَن ظَنَّنِي: هَل هَاتَفَتْكَ “مُنَى”؟

مَنَّتْ كَثِيرَاً وأرْجُو أنْ تُمَنِّينِي

وقالَ لِي صَحَفِيٌّ: هَل نَزِفُّ إلَى

(شَيخِ المَعَالِي) أتَمَّ الخُرَّدِ العِينِ

وأمَّنَت زَوْجَةُ المِذيَاع ضَاحِكَةً

وقَالَ مَن قَالَ: لَو قَصَّرْتُ يُقصِينِي

فَقُلْتُ: يَأْبَى هِجَائِي أنْ يَسِفَّ إلى

عِمَامَةٍ تَحتَهَا الشَّيخُ “ابن شَعْنُونِ”

إليَّ أهْدَى قَمِيصَاً لُبْسَ أرْبَعَةٍ

لِكَي أرَى كَيفَ لَمْ يَبْخَل بتَكْفِينِي

يا شَيخُ شَارَكْتُ “عِزْرَائيلَ” شَمْلَتَهُ

تِسعِينَ شَهرَاً، أُصَافِيهِ.. يُصَافِينِي

قَالَ الفَتَى أيْنَعَتْ عِشرُونَ مِن عُمُرِي

هُنَا، ومَا لاحَ لِي مَا أنتَ تُنْبِينِي

الأبيات السابقة تشير بذكاء إلى شيخ متنفذ نما إلى سمعه أن الشاعر عبد الله البردوني هجاه أو ربما أسقط القناع عن وجهه ليكشف القبح المخبوء تحت عمامته وأن هذا الشيخ –بدوره– أرسل من يداهم منزل البردوني.

وهنا أود التأكيد على أن قصائد كثيرة للشاعر البردوني تفصح عن مداهمة منزل الشاعر أكثر من مرة، ففي قصيدة “لص في منزل شاعر” نجد الشاعر يقابل فعل السطو ومحاولة اللصوص بالسخرية والتندر. غير أنه في المداهمات الليلية اللاحقة لمنزله أدرك جيدا الرسالة والتهديد المبطن وراء تكرار هذه المداهمات، ليقول في قصيدته “بيت من الريح” وهي بالمناسبة من القصائد التي لم تنشر بعد إلا عبر صفحات الملحق الثقافي:

قُل لِمَن أَرسَلَكَ اللَّيلَ: استَرِح

فالذي تَخشاهُ لَن يَحتَلَّ صَرحَك.. 

ولعل هذا الوعي القرائي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك اختفاء قصيدة للشاعر المعجزة عبد الله البردوني كان قد تحدث عنها وأشار إليها في أكثر من لقاء وموضع، وهذه القصيدة بعنوان “أبطال.. ما بعد منتصف الليل”. 

والسؤال الذي يضع –بإصرار– نفسه ها هنا:

ترى من هذا الشيخ المتنفذ الذي ذكره البردوني ولمزه بقوله “بن شعنون”؟ وما علاقته باختفاء بعض كتب البردوني؟ وهل انهيار منزل الشاعر عبد الله البردوني –مؤخرا– فعل بريء، أم أن هنالك العديد من الاحتمالات الآثمة بحق الشاعر وموروثه الفكري والشعري؟ 

ويقول الشاعر عبد الله البردوني في آخر قصيدة “رحلة ابن شاب قرناها” التي لم تنشر بعد إلا من خلال صفحات الملحق الثقافي: 

قال: ماذا حملتَ؟ قلتُ: كتاباً

وتأبَّطتُ صُرَّةً لاقتياتي

ثم ماذا؟ أسْكنتُ (ميمون) نصفي

قل ونصفي لمن؟ لتلك الحصاةِ

البيتان الشعريان السابقان يشيران بذكاء إلى جهة معينة دفع إليها البردوني بروايته “حكايات العم ميمون” بقصد الطباعة وتقاضى حقا فكريا “صرة” حسب لغة البردوني في القصيدة.. 

هذه الجهة لم تلتزم أدبيا ولا أخلاقيا بطباعة العمل الروائي، ربما للمكاشفات والحقائق التي يوردها الخطاب الروائي خاصة فيما يتعلق بالأجواء والدلائل المصاحبة لاغتيال الرئيس السابق إبراهيم الحمدي، وتمادت هذه الجهة الرسمية مستفيدة من موت أسطورة الأدب العربي عبد الله البردوني رحمه الله..

السؤال: هل بمقدورنا الاهتداء إلى هذه الجهة والضغط عليها بكل الوسائل لإصدار هذا العمل الروائي أو تسليمه لجهة تتكفل بطباعته؟.