كورنيش المخا.. متنفس في شبكة صيد خانقة!!

المخا تهامة - Sunday 28 February 2021 الساعة 11:30 am
المخا، نيوزيمن، نجم المريري:

يبدو الجو هادئاً في الأرجاء، إذ لا وجود للجلبة العاصفة المعتادة التي يصدرها قرع نعال (أنعلة) الرياح على النافذة، كانت الساعة تشير رقمياً إلى التاسعة صباحاً، وهو ما تعارضه ملامح الضوء وذوبانها الندي في زجاج النافذة، ناعسة وفضية بملمس ولون ورائحة الفجر.

أن تحظى بصبح كهذا في مدينة كالمخا لهو امتياز عظيم يستحق من الندرة أن توقد لأجله الصلوات، وأن يغادر الناس منازلهم ويعرونها من الحجارة ليلقوها بتشفٍ حجراً حجراً في فم الريح إمعاناً في دفنه وثنيّه عن العودة.

كان رأسي خالياً من الأمكنة، بحثت حتى في اسطبل الذاكرة عن مكان آوي إليه دون جدوى، كل الأمكنة تتبخر في عدمية وجودها. في حالتي هذه يؤم بي الحنين صوب عدن، صلواتي كلها، حد اللهاث، عليك يا عدن، يا إنسنا وجننا هادين ومضلين.. آمين، آمين.

صليت لعدن، وفي خضم العناق قادتني تسبيحة ما، لا أذكر رقمها، إلى كورنيش المخا، ورغم عدم مناسبيته إلا أنه كان الخيار اليتيم المتوافر.

في العمودي يقع كورنيش المخا، يمد الكورنيش سيقانه بين قوارب صيد الأسماك إلى مقدمة قريبة من ماء البحر المغبر.

يبدو المكان خالياً إلا من ظلال منثورة لصياد هنا وهناك، على مبعدة من الكورنيش يسبح مجموعة من الشبان، وعلى مبعدة أطول يجثم أحد مراكز الإنزال السمكي، أحياناً يؤدي الكورنيش وظيفة المركز نفسه، كل شيء في المكان يؤدي وظيفة الاصطياد ويزنّخ بالعفونة هواء المكان الطلق، الأسماك الميتة على الشاطئ، مخلفات البحر والإنسان وما تبقى من الشاطئ تتسيده وتحتله القوارب نابتةً ونامية كشجر استوائي ضار، سميكة وشاسعة، بيننا وبين البحر.

بالنسبة لي، لا أجد أي معنى شاعري للبحر، يتضاعف هذا المعنى ويتأكد أكثر في المخا، ليس البحر أكثر من حاجز طبيعي أوجدته يد خالقه قبل أن تفرغه بجبرية في هذه العبوة الأرضية ليقف كمريد بين أواصر العالم، جزءاً من لعبة إلهية تسمى "الحياة" يؤدي فيها البحر ما تؤديه الحواجز في سباق الخيول، ترميناً يد ما إلى مسرح اللعبة ترتب حواجزها وحدودها تصاعديا، تضعنا عند الولادة أمام أول حائل نعبره بيسر زاحفين ومن ثم مستندين على الحائط، تدفعنا نحو المشي وتطالبنا بالإسراع، نمضي الحياة راكضين، كلما اجتزنا حائلاً لا نجد خلفه سوى الفراغ، نفكر بأن الشيء الثمين الذي صممت من أجله اللعبة وأقيمت الحواجز سيكون مختبئا طبقا لقواعد ومنطق اللعبة خلف إحداهن دون ريب، نقبل مواصلة التحدي مدفوعين بهذا المنطق الذي أوجدناه لنحذوه، نركض ونقفز كما لو أننا سنصل أبعد مما وصل إليه الموتى، خلف الحاجز الأخير يكون ثمة الموت دائما، ندرك هذا ولا ندري كيف لا نصدقه، ربما لأنه لا وسيلة هناك لتغيير اللعبة رغم قواعدها المخترقة، بالنسبة لي كان قبول العالم هو الحاجز الذي وقفت عنده ولم أستطع تخطيه.

كلما وقفت أمام البحر، يكون ذلك كافياً لأدرك نهاية العالم واثقا بحزم أن ما وراء البحر وما يتلوه ليس أكثر من هوة سحيقة كالتي أقف على حافتها، هذا الإدراك الحقيقي لماهية الحياة يفرغني من الأشياء، يشطف آثارها المالحة من الداخل.. يملأني بالأثير ويطيرني في الفضاء، يُصعّدْني عاليا، واحدا متحدا بالسماء وفي الأسفل تصول وتجول وتتقاطع أمواج البحر كـ"كلاب حراسة"، تعزز الوظيفة القسرية للبحر.. شرسة، آلية، مسعورة وعاضة.

في المخا تسقط كل معاني ووظائف البحر، وحدها تلك المفردة السمكية المخاطية العفنة من تبقى ماثلة، يخطها بين البحر والشاطئ سلسلة صلدة من القوارب المصطكة والمتصاقبة، توقّف بعضها منذ زمن وما من وظيفة لها سوى طمس الجزء الحسي الشاعري من البحر وشاطئه، فيما مقدمتها الخنجرية الحادة تطعن الكورنيش من خاصرته.

قبل شوقي هائل، محافظ المحافظة حينها، والذي يعود إليه فضل بناء الكورنيش، كنا لا نعرف عن بحر المخا سوى أنه مجرفة صيد أو خط تهريب، كان البحر، بالنسبة للمواطنين كما يقول أحد أهالي البحر، جميلا بمقدار ما يعطي من أسماك أو قبيحا كبُصاق إن شح عطاؤه.

كان من المأمول لو استمر شوقي أطول أن تصبح المخا عدن الشمال، نسخة مصغرة عن عدن الجنوب.

كان من الطبيعي أن يعطي الكورنيش للبحر مظهرا سياحيا جميلا، وأن يكون سماءً أرضية صغيرة تتندى عليها أقدام الباحثين عن الفرجة، الصغار والجميلات منهم وهن يحملن البحر على سيقانهن ونظراتهن المبللة، يمددنه على الكورنيش ويبدأن بتجفيفه على بلاطه المكشوف للشمس بتشكيلاته الهندسية البسيطة.

أنا على كورنيش المخا الآن، الشمس تكاد تغادر سباتها الضبابي، ثمة رجل وامرأة يبدو من هيأتهما الواثقة ونظراتهما المستعرة أنهما زوجان حديثان، على حائط إحدى غرف الكورنيش غير المسقوفة بعد والمرمم أجزاؤها حديثا، يسندان ظهريهما محتمين من الشمس في تلك المساحة اللسانية الظليلة التي يصنعها الحائط.

في مواجهتما كما في مواجهتي تمتد كشريط خشبي قوارب الصيد والجمال المسحوق للبحر، وفي المساحة الفاصلة بينهما.. على الجزء المتبقي من الشاطئ المسروق تمتد بضحالة مخلفات البحر وحبال تثبيت القوارب.

ظهور الشمس المفاجئ والاصطفاف المحتج والساخر للقوارب، بدا كل هذا مكرا قاسيا للزوجين ورغبتهما الصباحية في التنزه، هذا ما تفصح عنه القرفصاء المتحسرة والمخنوقة في جلستهما، قبل أن يقفلا عائدين مارين بين القوائم الحجرية التي يحدد بها ملاك الأرض ملكياتهم، في نزاع الأراضي كانت تلك الزوائد الحجرية أشبه بأوثان أضرحة، مقبرة اضطهاد فسيحة، فيما الموتى هم الأجزاء الأخرى المتبقية من حرم الشاطئ والكورنيش.. موتى موشكين وعلى أهبة الدفن، مسحوقين ومستنجدين وبحاجة لمنقذ.