أسماها عاصمة الأمل العربي.. عدن الدافقة بوجدان سعدي يوسف

الجنوب - Friday 02 July 2021 الساعة 07:39 am
نيوزيمن، كتب/ د. فاروق ثابت:

من على شاطئ الفيل أو ساحل أبين أو شاطئ الغدير، كان يسافر وتطير به المسافات إلى خلف العوالم. 

يبحر فوق تكسر الموج، ويحلق أجنحة ونوارس على المراكب والسفن، يرقص مع هبات الريح، ويشدو وابتهاجات الصيادين في صباحات عدن الجميلة. 

كيف صنعت عدن سعدي؟ 

لقد أسهمت مدينة الحب والسلام والتعايش في صناعة علم من اعلام الشعر العربي المعاصر.

كان لمدينة عدن دور كبير في صياغة الوجدان الشعري لأكبر رواد الشعر العربي المعاصر. 

 خمس سنوات فقط، منذ مطلع الثمانينيات وحتي بداية أحداث يناير 1986، كانت كفيلة بإنتاج شاعر يمني متمرس وبدماء عراقية.

ارتبط الشاعر الكبير سعدي يوسف بعدن وجداناً وروحاً وفناً ومعنى ومغنى.

الإلهام والحس والقلم 

لم تكن عدن بالنسبة له ملاذاً من مطاردة سياسية فحسب، ولكنها كانت له الإلهام والقلم والحرف والحس والإحساس العظيم. 

ومذ غادرها بسبب أحداث يناير 86 بقت ثغر اليمن الباسم في مهجة الشاعر سعدي المُلهِمة كما هي ولم ينسها وواصل كتابة الشعر عنها وسرد احداثها وذكراها، وقد كان له مريدون من الشعراء الشباب، حيث تتلمذ على يده وكتب فيما بعد عن تجارب بعضهم كالدكتور جنيد محمد الجنيد، ومحمد حسين هيثم وشوقي شفيق ونجيب مقبل وكريم الحنكي وغيرهم.

بكاء 

بينما كانت الأدخنة تتصاعد من منازل عدن وقد داهمها نيران القصف في 86، كان سعدي يوسف يذرف مودعا المدينة التي ألفها وألفته مثل طفل يرى أسرته تحت لفح النيران دونما استطاعة أن يفعل شيئا لأجلهم فدون حشرجاته قائلاً:

"للسلاح الذي حار حتى انتحر.... للوجوه التي نحت الحقد فيها .. امنح دمعتي الحائرة".

نحيب

ثم ينتحب سعدي مرة أخرى حائراً منهكاً حزيناً مربكاً والموج يتلاطم به مغادراً: 

مذ غادرتك الدلافينَ

أحسستُ أن الطريق الى حضرموت القريبةِ

أطولُ من لحظة النزعِ ...

أي الفراتات أختارُ

من بعد أن نضب الفلُ في بئر ناصر

قد كان لي زورق وأحترق

كان لي منزلٌ لم أغادره حتى غرق

فلأُقل لا تزوري المضافة

حين نثرنا الأراك

الأرائك

والدوم والسيسبان الرزين

ولا تتركي في دمي اليودَ والملحَ

لا تتركي في لهاث الرئة

بعض رملِك.

حب وذكرى وحزن 

غادر سعدي ليسدل الستار عن خمس سنوات من الإقامة في عدن التي شكلت بالنسبة له وطنا متكاملا، ورغم مشاغل الحياة وما لاقى من مغريات وأعمال بعد خروجه منها إلا أن عدن ما تزال دافقة في قلبه حباً وذكرى وحزناً وجرحاً معاً:

يقول سعدي في ديوانه "يوميات المنفى  الأخير": 

 عدن بعيدة 

وعدن في القلب 

ولا مسافة بين القلب والمسافة

تقول جنوبيون 

تقول يمانيون

علمونا اللغة وانطقونا الشعر، ومنحونا امرأ القيس الجميل

تطاول الليل علينا دمون

دمون إنا أخوة يمانيون وأننا لأهلنا محبون

تقول جنوبيون تقول يمانيون

سددوا خطاهم من الثورة إلى نظرية الثورة

ومن نظرية الثورة إلى الثورة

وأنبتوا في رايات العرب أول نجمة حمراء.

عاصمة الأمل العربي 

تقول الأديبة العدنية سعاد العلس: أطلق سعدي على عدن عاصمة الأمل العربي، حين كانت قبلة أنظار الدول الأخرى في فرادة تجربتها، وقبل أن تنال منها الكوارث والاحقاد. 

تأثير عدن في سعدي

وعن علم شعر الحداثة سعدي يوسف دوَّن الرئيس الأسبق علي ناصر محمد: كان لعدن أثرها في شعر سعدي يوسف، هذه المدينة التي عاش فيها شاعر فرنسا العظيم رامبو فترة من حياته. فلهذه المدينة سحرها وتأثيرها على كل من يعيش فيها ولو لفترة قصيرة، وانعكس هذا على النشاط الثقافي والأدبي الذي اضطلع به سعدي في المحافل والامسيات الشعرية والأدبية في كل من عدن وحضرموت ولحج ويافع التي رافقه في رحلته الى لبعوس عام 1984 الشاعر جنيد محمد الجنيد، الذي قال انه استفاد من سعدي كثيرا في الشعر والأدب، ولم يكن يقصد نفسه فقط بل اجيالا من الشعراء العرب الذين تأثروا بسعدي يوسف وتجربته الشعرية الثرية.

ويتابع: أبدع سعدي عدداً كبيراً من القصائد والدواوين خلال وجوده في عدن فضلاً عن إشرافه المباشر على إصدارات الكتب ودواوين الشعر وكذا المجلات المتخصصة في الأدب وأدب الطفل الصادرة عن دار الهمداني.

ويضيف ناصر: وهكذا كانت إقامته حافلة بالعطاء الزاخر لن تنساها الأجيال المثقفة التي ترعرعت ونمت في تلك الفترة الزاهرة من تاريخ اليمن الديمقراطية.

مستدركاً: فقد كان حضور الشاعر الكبير سعدي يوسف نبراسا ملهما للإبداع والمبدعين.

واكد علي ناصر، سيظل شعر سعدي وكلماته التي خطها هي الكلمات التي ستقرأها أجيال وأجيال، وسيجدون بين سطورها ما يعيد لهم الامل أو يمنحهم العزاء.

الزمن الجميل 

وعن عدن وسعدي يوسف يقول الأديب العدني أصيل قباطي:

يَذكر سعدي يوسف عدنَ بالزمنِ الجميل، عدن أيضاً ـكما عنون سعدي قصيدته، يحتفظُ بها، كمستقبلِ سابقِ لأوانهِ حل في هذه المنطقة، كمستقبلِ مأمولِ وكنموذج. 

ورغم  مرور الأيام والسنين على الشاعر سعدي في لندن إلا أن قلبه ما يزال معلقاً في عدن:

  يقول "ماذا لو أني الآنَ في عدنٍ؟  سأمضي، هادئاً، نحو  التواهي  والقميصُ الرّطْبُ، يعبَقُ، من هواءِ البحرِ" 

سعدي وأصحابه في عدن

عدن والصحبة ما تزال جاثمة على ذاكرته وما يزال يتذكرهم، بل ويدونهم ويخاطبهم بالاسم:

أرى، هنالكَ، بينَهم، لي رفقةً / وأصيحُ / أحمدُ! / يا زكيّ! / ويا سعيدُ! / ويا يا ... / إني قطعتُ الكونَ من أقصاهُ، كي آتي إليكم يا رفاقي / فَـلْـتُـفيقوا لحظةً"، ويُكمل، "إني أتيتُ لكم بماءٍ سائغٍ من رأسِ رضوى / جئتُكُم بالرايةِ الحمراءِ / رايتِكُم / سأحملُها، وإنْ وهنتْ ذراعي".

وفاة سعدي 

 مطلع الثلث الثاني من حزيران يونيو الجاري توقف قلب سعدي يوسف مسدلا الستار عن حياة دامت 87 عاماً من العطاء والإبداع، قدم فيه سعدي نحو 43 ديواناً شعرياً، إلى جانب العشرات من الترجمات، واثرى الأدب العربي الحديث وشكل نقطة فارقة في تاريخ الشعر المعاصر.

حزن

ونظراً لهذا الحدث الجلل فقد حزنت اليمن قاطبة وعدن بصفة خاصة لرحيل ولدها العلم سعدي يوسف الذي أثَّر وتأثر خلال سنوات إقامته القليلة في عدن والكبيرة في وجدان وذاكرة الشاعر الكبير.

رثاء 

الشاعر الذي أبصر النور في بلاد النخل والنخيل وبالتحديد في مدينة "ابي خصيب" التابعة لمحافظة الموصل العراقية في العام 1934، كتب قصيدة يرثي بها الشاعر الكبير بدر شاكر السياب من مقر إقامته حينها في الجزائر في العام 1965، ولا أجدني أرى انسب منها لرثاء سعدي يوسف ذاته:

"جيكورُ توقد في المساء الرطبِ فانوساً ولا تلقى ضياءَهْ

- مات اليتيمُ وخلّفَ امرأةً وأيتاماً وراءَهْ

يا رحمة الله التي وسِعَتْ شقاءَهْ

يا أُمَّ مَن لا أُمَّ تُغْمِضُ جفنَهُ: كوني رداءَهْ

ولْتمنحي الجسدَ المعذّبَ راحةً، والحلقَ قطرةْ

ولْتمسحي بالسِّدْرِ جبهتَهُ، وبالأعشابِ صدرَهْ

هو طفلُكِ المصلوبُ فوقَ سريرِهِ  عاماً فعاما

متقيِّحَ الطعناتِ

مشلولاً

مُضاما...

يا رحمةَ الله التي وسِعَتْ شقاءهْ

قودي خُطاه إلى السماءِ، فطالَ ما حجبوا سماءَهْ

وتَرَفّقي...

إن الجراحَ تسيلُ من قدَمَيه، تنبتُ وردةً في إثْرِ وردةْ

فلترفعيه إلى جذور النخلِ حيث ينامُ وحدَهْ

ولتضفري من سعْفِ نخلتِه مخدّةْ

حتى إذا ما أنغمِضَتْ عيناه وانسرحتْ يداهُ

وتهدّلَ الأبنوسُ فوقَ جبينِه... كوني رؤاهُ

*

أيّوبُ في المستشفياتِ يهيمُ، تسبقُهُ عصاهُ

بين القرى المتهيّباتِ خُطاه، والمدنِ الغريبة

وهو المسيحُ يجرُّ في المنفى صليبَهْ

أنهارُ جيكورَ التي اندثرتْ تُفَجِّرُها عصاهُ

وبيوتُها تنشَقُّ عن لبَنٍ إذا مرّتْ يداهُ

عبْرَ الجبينِ

وأورقتْ في السرِّ أغنيةٌ وآه".

عدن الشامخة بالمبدعين


يمر الزمن ويرحل العظماء، وتبقى عدن شامخة بالذكرى والأمكنة التي صنعت مجداً وتاريخاً يدون نفسه عن مآثر المدينة العظيمة وإسهامها في إنتاج الإبداع والمبدعين.