د. عبدالودود مقشر

د. عبدالودود مقشر

تابعنى على

تهامة وحروب المصالح العالمية

Saturday 22 December 2018 الساعة 08:41 am

 

العنوان الأصلي للكاتب “قصة الاحتلال البريطاني للشواطئ اليمنية”

أ. د. عبدالودود قاسم حسن مقشر 
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المشارك
جامعة الحديدة – كلية الآداب

وجدت بريطانيا ذريعة لاحتلال تهامة اليمن عسكرياً تحت تنفيذ اتفاقية هدنة مندروس، ولكن السبب المباشر هو تمرد القيادة العسكرية التركية في تهامة واليمن عن تنفيذ اتفاقية الهدنة.

أعلن البريطانيون أن الغرض من احتلال القوات البريطانية هو “الإشراف والمراقبة على جلاء الجنود الأتراك من اليمن وعسير وتهامة وتيسير ذلك في مدة لا تتجاوز أقصاها فبراير 1919م لتسليم هؤلاء أنفسهم طواعية"، حسب الوثائق البريطانية، هذا هو المعلن، ولكن هذا الاحتلال الذي امتد ثلاث سنوات من صباح يوم السبت الحادي عشر من ربيع الأول 1337هـ/ الرابع عشر من ديسمبر 1918م حتى يوم الجمعة الثاني عشر من جمادى الأولى 1339هـ/ الحادي والعشرين من يناير 1921م حقق له بعض ما أراده، من أهداف كامنة ومنها:

1- جعل المخا والخوخة وموزع وابن عباس والصليف قواعد عسكرية مؤقتة واتخاذ الحديدة قاعدة ثابتة ليتم شحن الجنود الأتراك مع ما تبقى لديهم من معدات حربية.

وقد تم هذا الهدف مع "استسلام فرقة تهامة والتي اجتمعت كلها في باجل والمراوعة، ولم يبق إلا القليل في الزيدية، وأصبحت اللحية وعبس خالية من العسكر"، ففي الخامس والعشرين من ربيع الثاني1337هـ/السابع والعشرين من يناير 1919م، ثم استسلام الفيلق السابع أحمد توفيق باشا في يوم السبت الثامن من مارس 1919م مع ضباطه وجنوده، وأخيرًا تسليم غالب بك قائد المنطقة الشمالية لتهامة مع إلياس بك نفسيهما للمحتل البريطاني يوم الأحد التاسع من جمادى الآخرة 1337هـ / الحادي عشر من مارس وهما من أبرز المقاومين والمطلوبين، وبذلك انتهت القوة العسكرية للأتراك في تهامة.

2- المطالبة بإطلاق جميع الرعايا البريطانيين والأوروبيين والذين كانوا موجودين في تهامة قبل الحرب العالمية الأولى والمحتجزين لدى العثمانيين في الحديدة ثم تم نقلهم إلى باجل ومناخه كورقة ضغط على البريطانيين، فتم إطلاقهم بعد الاحتلال البريطاني لتهامة..

قال الوشلي في نشر الثناء الحسن:- "أطلقت أسرى الإنجريز الذين كانوا في مناخة وهم الذين كانوا في الحديدة يتجرون قبل وقوع الحرب والحصار، ولما وقع الخلاف بين الترك والإنجريز أُخذوا بحُكم الأسر وسُيروا إلى مناخة وأطلقوهم الآن وسيروهم إلى الحديدة"، وذكر المؤرخ البريطاني جون بولدري أنهم 132 هندياً بريطانياً و46 يونانياً و1 يهودي و1 سوري كاثوليكي.

3- رغبة البريطانيين في توطيد أقدامهم بتهامة واتخاذها منطلقاً لإلحاقها بمستعمرة عدن، وهذا الاحتمال للاحتلال نسفته شدة ضراوة المقاومة التهامية، فاضطر الانجليز إلى الانسحاب الفوري بعد "اقتناعهم بأن الاحتفاظ بقطعة من تهامة معرضة في الوقت لوخز الدبابيس المستمر من قبل القبائل المتاخمة لها والمدافعة عنها وأنه أمر يفوق طاقتها".

4- احتفاظ البريطانيين بالحديدة لكونها "تريد إبقاء يدها الطولى في المنطقة، ومن ثم تريد محاصرة القومية العربية التي بدأت بالتوالد".

5- استباق القوى الاستعمارية الأخرى -الفرنسيين والإيطاليين- في احتلال الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر وخصوصاً الإيطاليين الذين حلموا بالسيطرة على هذه الأرض وخططوا لها.

6- حفظ النظام والأمن في مدينة الحديدة والمناطق المجاورة لها في انتظار قرار خاص من القوى العظمى بملكيتها، وهو ما أعلنته بريطانيا كأحد أسباب احتلال تهامة وخشيتها من أن تعم الفوضى تهامة وينعدم الأمان واعتبرت أن تدخلها هو التزام أخلاقي باعتبارها المنفذ لاتفاقية مندروس..!

7- استغلال البريطانيين احتلال الحديدة كورقة مساومة وضغط على الإمامين الإدريسي ويحيى من أجل تحقيق أهداف استعمارية بحتة.

بين الوجود العثماني والاحتلال الانجليزي

بدأت بريطانيا الإعداد والتجهيز لاحتلال الحديدة من اليوم السابع من ربيع الأول 1337هـ/ العاشر من ديسمبر 1918م في عدن، فأعدت وجهزت البوارج والسفن الحربية التالية لهذا الغرض:

• السفينة إليفانيتا Elephentia وتحمل على ظهرها 1016 ضابطاً وجندياً من رجال اللواء الأول رماة القنابل رقم"101"، 98حصاناً وبغلاً، 150 رجل احتياط، 300 طن من المحفوظات.

• السفينة كيسترا Kistra، وتحمل أربعة مستشفيات متنقلة.

• السفينة جونو Juno، وتحمل رجال المدفعية والمدافع.

• السفينة سوفا Suva، وتحمل قوة الإنزال والمسئول عن عملية الإنزال الملازم أول ج .ر . تايلورLt.J.R.Taylor .

• السفينة كيستانيا Kestania، وبها الفرقة 101/2 الأولى من المشاة ومستشفى متنقل وفريق من المهندسين العسكريين وواضعي الألغام.

• الناقلة أم . أل . تسعه M .L . 9 وهي محملة بالقنابل والذخائر والمؤنة ولديها المركب درايفتر وعليه 150 رجلاً، و270 رجلاً في قوارب الإنقاذ (في كل قارب من القوارب التسع 30 رجلاً).

• السفينة بروسبيرين Prosperine.

• السفينة جويردون.

• السفينة سوسيتا.

فوصل الأسطول البريطاني إلى شواطئ الحديدة في الساعة السادسة صباح يوم الجمعة العاشر من ربيع الأول 1337هـ / الثالث عشر من ديسمبر 1918م وتم إرسال وفد للتفاوض مع قائد مدينة الحديدة العسكري التركي، وعرض عليه خيارين:

- الخيار الأول: استسلام قواته وتسليم أسلحتهم.

- الخيار الثاني: الانسحاب إلى داخل تهامة عشرة كيلومترات بعيداً عن المدينة.

فرفض القائد التركي كلا الخيارين رغم إعطائه مهلة أربع ساعات لاختيار أحد الخيارين وليتواصل مع قادته، وبعد انتهاء المهلة بدأت عملية الإنزال ففشلت، ثم أعاد البريطانيون الكرة، فتمت عملية الإنزال في الساعة الخامسة والنصف صباح يوم السبت الحادي عشر من ربيع الأول 1337هـ / الرابع عشر من ديسمبر 1918م بقصف مدفعي مكثف، رغم أن القائد العام للفيلق السابع التركي جاء جوابه، إلا أن البريطانيين رأوا في جوابه مماطلة وتسويفاً، فحجزوا الطاقم التركي المرسل، واستمروا في القصف وتقدمت السرية الأولى باتجاه الشمال من المدينة واتجهت السرية الثانية إلى الطرف الشرقي مستهدفة الثكنات العسكرية التركية، وسرية ثالثة في مؤخرتها وإلى يمينها، أما السرية الرابعة فكانت احتياطية، وتحت غطاء من القصف المركز من سفينة جونو وسفينة سوفا وسفينة بروسبيرين، دخلت القوات البريطانية إلى داخلية المدينة، لتبدأ عملية الاشتباك والالتحام بالسلاح الأبيض من حارة إلى حارة ومن بيت إلى بيت مع المقاومة التهامية، فاستخدم البريطانيون أساليب وحشية مثل إلقاء القنابل على البيوت التي يشك أن بها مقاومة وعلى من بداخلها من مواطنين وتم نسف مقرات حكومية تركية من دون سبب وتدمير وحرق مآذن بعض المساجد التي ادعوا أن بها مقاومين تهاميين وأتراكاً، وقتل عدد من جرحى المقاومة أمام نظر الأهالي كأسلوب للتخويف والإرهاب وأسر عدد من المقاومين التهاميين، أما الأتراك فتم أسر خمسة من كبار الضباط الأتراك وهم:

1- البمباشي زكي بك.
2 - رجب بك مدير الميناء.
3- قائد الحديدة العسكري.
4 - قائد الشرطة. 
5- قائد الفوج110/1الملازم سيد أفندي.

أنزلت القوات البريطانية بطارية مدافع إلى البر في 15 ديسمبر، فكبدتها المقاومة خسائر فادحة تكتمت عن ذكرها وذكرت أن الخسائر هي جرح ثلاثة جنود بريطانيين فقط وأسر 20 تركياً وغنيمة 5 بنادق النورد نغيلت..!

وقدم إلى تهامة المقيم السياسي البريطاني بعدن الجنرال ستيورات J.M.Stewart في يوم الجمعة السابع عشر من ربيع الأول 1337هـ / العشرين من ديسمبر 1918م ومعه شعبة من المدافع الحديثة طراز (B101) بينما وصلت سريتان من اللواء الهندي في اليوم التالي، وبعد احتلال الحديدة بدأت بريطانيا بتنفيذ أجندتها من هذا الاحتلال، فتم إطلاق المعتقلين الأوروبيين لدى الأتراك "ففي 16 يناير 1919م تم تسليم المجموعة الأولى من المحتجزين ضمت 6 بريطانيين و26 هندياً بريطانياً... كما وصلت في اليوم التالي مجموعة أصغر من المعتقلين السابقين بلغ عددها 13نفراً ومن بين أفراد المعتقلين البريطانيين السادة "يكويل" "كراتيون" "لودج" كانوا يعملون تحت إدارة السير جون جاكلسون والقائد العسكري"، ثم توالت الدفعات حتى اكتملت في فترة قصيرة.

أما الهدف الأساسي وهو سحب القوات التركية المتبقية بتهامة واليمن وعسير، فبعد قدوم مندوب من الأستانة وهو ضابط برتبة يوزباشي موفد من وزارة الحربية التركية بأوامر خاصة لقيادة الفيلق بصنعاء ومضمونها تسليم جنود الفيلق للإنجليز حسب المادة 16 من اتفاقية الهدنة، فلذا عمم قائد الفيلق في يوم الاثنين الثامن عشر من ربيع ثاني 1337هـ/العشرين من يناير 1918م بكافة القطاعات العسكرية بلزوم اجتماعهم في المخافر ولأجل ركوب السفن وأعلن عزمه على الاستسلام واستسلام قواته في وقت وصول هذا المندوب ضابط الارتباط التركي لترتيب تفاصيل عملية الاستسلام.

توالت عمليات الاستسلام فكانت المجموعة الأولى من الأتراك قد تم حملها على سفينة البنتاكيتا Pentakita وأبحرت من تهامة في يوم الثلاثاء الرابع من جماد الأولى1337هـ / الرابع من فبراير 1919م وهم: 63 ضابطاً، 882 جندياً، 73 امرأة، 66 طفلاً. والمجموعة الثانية أبحرت في 11 فبراير وهم: 800 جندي مع ستة بنادق. المجموعة الثالثة توجهت إلى مصر مباشرة في 15 فبراير ومعها 68 ضابطاً، 916 جندياً أغلبيتهم من الفرقة 40. وفي الأول من مارس رحل 104 باط، 1079 جندياً، 21 مدنياً، 204 نساء وأطفال. وفي 11 مارس رحل 39 ضابطاً، و966 جندياً، وكانت الدفعة الأخيرة انطلقت إلى عدن في 25 مارس وتحمل 80 ضابطاً، 434 جندياً، و199 امرأة، ليبلغ عدد الأتراك الذين تم استسلامهم جميعاً في تهامة 5305 أشخاص.

“الكفار.. يحتلون أرض المسلمين”

أما وقع صدى الاحتلال البريطاني لدى الأهالي في اليمن، فشكل صدمة قوية وغير متوقعة، وهو ما عبر عنه مؤرخ تهامي معاصر لذلك الحدث وهو محمد بن اسماعيل الوشلي فقال: "وفي شهر ربيع الأول نزلت بالإسلام وأهله باليمن فاقرة عظيمة وحادثة جسيمة لم يعهد وقوع مثلها من منذ بعث محمد [إلى] وقتنا وهي أنه وصل عدو الله الأنجريز إلى بندر الحديدة قاصداً النزول به والاستيلاء عليه، فأحاطت به مراكبه البحرية وأنزلوا جيشاً ملأ الفضاء وعدة حربية عظيمة وجبخانات وأرزاق للعساكر فصادف ذلك والبندر قد خلا من أهله بسبب أن الأنجريز قد كانوا من قبل يترددون إليه بالبوابير ويرمونه بالمدافع العظام ففر أهله منه إلى البوادي فدخلته الأنجريز من غير رمية ولا ضرب”.

يلاحظ من النص السابق أن الحديدة كانت خالية تماماً من السكان بسبب القصف المستمر لها في الحرب العالمية الأولى والحصار المضروب عليها، وهو ما يؤكده مؤرخ من المدينة نفسها وهو العلامة أحمد عثمان مطير في كتابه (الدرة الفريدة في تاريخ مدينة الحديدة) فقال: "لقد تعرضت مدينة الحديدة بضرب القذائف النارية من السفن من البحر ثلاث مرات ويهرب سكانها إلى البلدان المجاورة لها كالمراوعة والقطيع والمنصورية والدريهمي وبيت الفقيه وغيرها"، وذكر المؤرخ اليمني الشيخ عبدالواسع الواسعي في (تاريخ اليمن): "هجم الانكليز على الحديدة بأحد عشر أسطولاً على حين غفلة بعد طلوع الفجر من غير إعلان ولا استعداد وضربوها بالمدافع وخربوها وذهبت أموال كثيرة وفر أهلها إلى التهايم في حالة يؤسف لها ولم يأخذوا معهم شيئاً وكل أحد نجا بنفسه والمدافع تطلق قنابلها، ثم احتل الانكليز الحديدة وتراجع الناس وصار أكثر الناس يسكنون الخرائب وفي البيوت القش وبعضهم صلّح منزله بما يقدر عليه".

لاحظ الكاتب أن أغلبية من فر من الحديدة حسبما أورد الوشلي ويوسف بك حسن ومطير هم من الأسر الأرستقراطية والعلمية، وهم الذين -فيما بعد- عاد أغلبيتهم وسكنوا بجانب منازلهم التي قد نالها قسط من الخراب والتدمير، ولكن هناك قضية أن المدينة كانت خالية من السكان، ففي هذا نظر، لكون المدينة كانت قد تجاوزت الخمسين ألف نسمة، والطبقات الكادحة والعمالية هي السمة الغالبة للتكوين الاجتماعي في المدينة فأغلبيتهم لا يملكون إلا بيوتهم القشاشية فقط، وظروفهم الاقتصادية والمعيشية معدمة فلا تسمح لهم بالانتقال من موطنهم إلى مواطن أخرى إطلاقاً، وهم من كان فيما بعد لب المقاومة الشعبية اليمنية التهامية ضد الغازي المحتل.

بريطانيا والأدارسة والإمامة واليمن.. المقاومة التهامية

بعد أن "ضربت الحديدة البلد الآمن غير المحصن، فدمرت قسم منها وقتل مئات من أهلها”، لم تمض ساعات حتى بدأت المقاومة التهامية اليمنية تشن هجماتها، مما استدعى قوات الاحتلال البريطاني إلى طلب المدد والنجدة من ضربات المقاومة الموجعة مستعينة بالسخط الشعبي في الحديدة والفظائع التي ارتكبتها القوات البريطانية إبان دخولها المدينة.

ففي الوثائق البريطانية أنه بعد مضي عملية الإنزال بساعات قليلة، وجدت القوات البريطانية نفسها تدافع عن مدينة ضد قوة عربية تركية مشتركة تتألف من 300 تركي و800 عربي والتي شنت يوم الثلاثاء الرابع عشر من ربيع الأول من 1337هـ / السابع عشر من ديسمبر 1918م هجوماً فاشلاً بالبنادق على المدينة وحمّلت بريطانيا القوات التركية في باجل ومناخه السبب في هذا الهجوم، لكن الهجمات استمرت حتى بعد استسلام الترك وترحيلهم، فوضعت السلطات الاستعمارية خططاً لتدافع عن وجودها، وعينت نقطة الموقع الدفاعي الذي يمكن للحامية أن تنسحب إليه في حالة وقوع أي هجوم في أوائل 1919م ويقع هذا الموقع شمال المدينة، وتقرر إرسال إحدى سفن خفر البحر الأحمر بالقرب من الميناء لتسهيل عملية الاتصال بين عدن والحديدة ولتعزيز الحامية والاستنجاد بها في حالة هجوم القبائل المقاومة التهامية اليمنية على المدينة.

انطلقت المقاومة التهامية اليمنية في فجر يوم الثلاثاء لتعلن عن نفسها، فاستمرت توجه ضرباتها بعدة طرق ومنها الضربات المباشرة والزحف بعد تحشيد القبائل والمواجهة مع العدو وجهاً لوجه والإغارة على مواقع العدو وفي حالات عديدة تتبع تكتيك حرب العصابات، أما داخل المدينة فنصبت الكمائن لقوات ومعدات العدو وتوجيه هجمات خاطفة على مصالحه ورعاياه، ومن العمليات النوعية للمقاومة التهامية اليمنية ما قامت به نخبة من أبناء تهامة عقب احتجاز بعثة جاكوب، فيروي شاهد عيان بالمراوعة أنه في يوم الجمعة الثالث من ذي الحجة 1337هـ/التاسع والعشرين من أغسطس 1919م: "سمعنا آخر النهار [قرع] طبول الشر تجمع القبائل وكان يُرى في الناس حركة غير اعتيادية، فسألنا عن السبب قالوا بأن كثيراً من القبائل يريدون غزو الحديدة"، وكان ذلك عقب الخطبة النارية التي ألقاها العلامة محمد بن أحمد بحر الأهدل، وهو خطيب مفوه، وألهبت خطبته الحماس لدى أهالي تهامة لمقاومة المحتل البريطاني، وخاصة بعد أن قال إن تهامة قدمت كفاكهة للبريطانيين، فكانت هجمات المقاومة التهامية اليمنية في الليلة نفسها، ثم ذكر هذا الشاهد أنه في اليوم التالي يوم السبت: "صباحاً وردتنا أخبار متناقضة بأن القبائل سروا ليلة أمس إلى الحديدة، وكان جُلّ قصدهم القبض على القنصل وبعض بيوت تجارة النصارى وأخصهم أبو ستول اليوناني، وحصل قتل خمسة من جنود الإنجليز والحرس، وقد غنمت القبائل أشياء كثيرة"، وقاد هذا الهجوم المقدمي – أي القائد علي باري، والذي عمل وأدار الكثير من الخطط والهجمات وربط بين مقاومة القبائل والمقاومة الشعبية في داخل مدينة الحديدة وهرّب كميات من الأسلحة عبر الجنائز والتي كان يدّعي أن أصحابها من الحديدة وماتوا خارجها وأوصوا بالدفن في الحديدة، فأدخل الكثير من الأسلحة التي أفادت المقاومة التهامية اليمنية في شن هجماتها التي أقلقت العدو وجعلته يغادر فجأة، وكانت معهم كل القبائل التهامية اليمنية، فالغرض من هذا الهجوم هو ضرب رأس الأفعى وهو القنصل البريطاني ج .هـ. ريتشاردسون Richardson G. H وضرب المصالح التجارية والاقتصادية للعدو، فتم القضاء على خمسة من الجنود الإنجليز، حسبما أعلن الإنجليز أنفسهم عن ذلك، ومن ثم تيقظت القوات البريطانية طلبت الإمدادات من عدن والهند، وقد ذكر الوشلي في (نشر الثناء الحسن) أنه "وفي ذي الحجة 1337هـ هجم جماعة من العبسية ومعهم من السادة أهل المراوعة السيد علي باري الأهدل والسيد محمد بن أحمد بحر الأهدل على الأنجريز الذين بالحديدة، فقتلوا فيهم، وانتهبوا دواباً وسلاحاً وغير ذلك ونجوا سالمين".

أعدت قوات المحتل البريطاني العُدة لمواجهة الهجمات الخاطفة والمباغتة للمقاومة، فوضعت الأسلاك الشائكة ونشرتها حول المدينة، وزرعت الألغام في محيطها وفي كل مكان، وبثت الجواسيس، ونشرت المدفعية الثقيلة على أسوار مدينة الحديدة، وتأهبت فرقة الرماة والقناصة برشاشاتهم الحديثة في مواجهة مقاومة لا تمتلك إلا الإمكانيات الذاتية البسيطة والمتمثلة في بنادق عفا عليها الزمن وخيل تربوا عليها حتى أضحت أرواحهم التي تسير على أرضهم، يقول شاهد العيان في يومياته ذاكراً اليوم التالي للضربة الأولى "الأحد 5 ذو الحجة 1337هـ / 31 أغسطس 1919م - أرى كثيراً من الناس وفي أيديهم أشياء متنوعة الأجناس... وحديث الخلق كله منصرف لهذه القضية، وهم مصممون على غزو الحديدة... وهذه الحركة دبرها بعض أشخاص متألمون من سوء معاملة القنصل لهم والقنصل المذكور أساء للناس وأظهر حقده القديم في تحكمه المستديم"، وهكذا أصبحت هجمات المقاومة التهامية حديث الناس ورُوت قصص البطولة والفداء تردد كأساطير، وذاق شعب تهامة لذة المقاومة بعد أن خمدت جذوتها عقب الحرب العالمية الأولى، فبدأت المقاومة تُعد العدة لهجمة تالية، ولكن هذه الضربة لم تكن مباغتة وغلب عليها الحماس والعدو أعد عدته لملاقاتها وبث عيونه في صفوف المقاومين، فكانت النتيجة أن أُصيب بعض أفرادها، وعزا المتصرف يوسف بك ذلك -وهو شاهد العيان الوحيد ولكنه كتب بعقلية رجل الإدارة والأمن التركي- إلى الجوع وسوء تصرف القنصل -ريتشارد سون- وتعاليه وحقده الصليبي ضد السكان، وقد يكون في تعليله لهذه الحركات صحيحاً في الشق الثاني وهو سوء أخلاقيات القنصل وصليبيته، أما السبب الأول وهو أن المحرك للمقاومة وهو الجوع فذلك غير صحيح، فهذه منقصة ومازال صاحبه يعيش أحلام الحاكم التركي الفظ الغليظ، ويذكر جهل الثوار بالأسلحة الحديثة وعدم وجود قيادة موحدة للثورة، واكتشاف الانجليز لأمر هذه الغزوة وأخذوا حذرهم، فقال عن هذه الهجمة التي وقعت في يوم الثلاثاء السابع من ذي الحجة 1337هـ/الثاني من سبتمبر 1919م "وقت الضحى أتانا خبر بأن القبائل التي هاجمت الحديدة رجعوا بصفة المغبون لأنه أخذ أكثرهم الطمع وتفرقت كلمتهم، ولا رئيس لهم، ولجهلهم خافوا المفرقعات النورانية وظنوها مؤذية، وكان الإنجليز تحذروا، وأعدوا الكمائن لذلك، لم يتوفق المهاجمون، فتركوا عدداً من القتلى والمجاريح"، أما الوشلي فرأى المقاومة كبدت العدو خسائر فادحة في الأرواح والمعدات وكذلك المقاومة "ثم هجموا عليهم كرة أخرى، فقتل من الطرفين جماعة".

استمرت عمليات المقاومة من كافة القبائل التهامية اليمنية والشرائح الاجتماعية بمدن تهامة ضد المستعمر البريطاني وهو ما لم يتوقعه البريطانيون، فقد ظنوا أن التهاميين لا يريدون حكم الإمام الإدريسي ومستحيل أيضاً أن يقبلوا بحكم الإمام يحيى، وأنهم سيرحبون بالانجليز، إلا أن التهاميين أرادوا تأسيس كيان لهم وتأكيد استقلاليتهم، وحسمت المقاومة التهامية اليمنية في الأخير الأمر، واشتد أزرها بالقبائل والالتفاف الشعبي حولها، ومن ثم عمدت إلى المقاطعة الاقتصادية للمستعمر واستعانت بفتاوى رجال الدين والذين نصوا على حرمة التعامل مع العدو الذي يحتل الأراضي التهامية بأي شكل من الأشكال ودخول المتعامل معهم تحت باب الخيانة، فتم حصار العدو من الشرق والجنوب والشمال وحصر تواجده ضمن أسلاكه الشائكة مما زاد في عزلته كما ذكر الوشلي: "ورفعوا الشبك الذي وضعه الانجليز حول الحديدة يوم استيلائهم عليها في وقت الإدريسي لمنع الداخل والخارج إلا بإذن وهو حديد مشبوك وضعوه الدائرة على الحديدة وتركوا فيه أبواباً للدخول والخروج عليها حرس لا يدخلها أحد ببضاعة أو غيرها إلا بعد أن يسلم ما اشترطوه من التكاليف”.

إن إعادة قراءة التاريخ في اليمن تحتاج إلى وقت طويل لنسف الكثير من القراءات المغلوطة والتي كتبت بغير يد أبنائها، ومن تلك القراءات أن الحديدة سلمت إلى الإدريسي تبعاً لما كتبه أمين الريحاني، فقال إن البريطانيين سلموا المدينة إلى صديقهم الإدريسي، فتلقفها كتاب الأئمة الزيدية والباحثون وعدوها من البديهيات من دون ذكر أو إشارة عن مقاومة للشعب اليمني ضد المحتل والمستعمر البريطاني، يقول المؤرخ مطير في كتابه (الدرة الفريدة في تاريخ مدينة الحديدة) وهو من أبناء مدينة الحديدة "حينما ضرب الأسطول الانكليزي على مدينة الحديدة واحتلتها... ونزلت جنودها فيها وهم من الهنود وكان يقال لهم الهندوه، استمرت غزوات القبائل على الجنود وتذبحهم فلم يستقر لهم قرار، ومن الذين كانوا يهاجمونهم أحمد هريسه الربصي وقبائله الربص الذين يقطنون شرق الحديدة حتى قرر الإنكليز طلوعه منها "وفي موضع آخر" لكن سكان الحديدة مع القبائل المجاورة قاموا بإحداث بعض قلاقل ضد الانكليز أدت إلى زعزعتهم وقد بذلت الحكومة البريطانية كلّ ما في وسعها لاسترضاء الأهالي، فلم يتم لها ذلك".

رحلت بريطانيا وعاد الإدريسي.. نهاية الاحتلال البريطاني

إلى جانب حركات المقاومة ضد البريطانيين كانت هناك مفاوضات وضغوط سياسية تطالب البريطانيين بسرعة الجلاء عن أراضي الحديدة، وقد تجلت هذه المفاوضات في وصول مشايخ القبائل التهامية إلى القنصل ريتشارد سون بالحديدة وطالبوه بفوّرية رفع الحصار البحري عن شواطئ تهامة وجلاء المستعمر خاصة بعد جلاء الجنود الأتراك وإطلاق المعتقلين الإنجليز لدى الأتراك، ففي يوم السبت الخامس من رجب 1337هـ / الخامس من إبريل 1919م "وصل مشايخ الزرانيق والعبسية إلى الحديدة وطلبوا فك الحصار من القنصل حسب وعده السابق فأخبرهم أنه غير قادر على هذا وكذب عليهم"، واستمرت المطالبة بالجلاء حتى كانت ضمن بنود الاتفاقية التي وقعها نائب والي عدن جاكوب مع قبائل تهامة وكانت من أهم نقاط المفاوضة مع البريطانيين، ففي يوم الأحد الثاني من صفر 1338هـ / السادس والعشرين من اكتوبر 1919م" وصل شيخ قبيلة عبس اليمن سليمان بخيت وسائر عقال العبسية ومندوب من طرف مشايخ الزرانيق، فلأجل عدم ما يكدر سبقتهم أنا والوالي لعند الوفد، ثم أتى هؤلاء مع مشايخ القحرى، وبعد مناقشات طويلة واعتراضهم على احتلال الانكليز للحديدة، قال لهم رئيس الوفد:- أن يكتبوا مطالبهم. فكتبوا مطالبهم وسلموها له، وكان قد أحدث مشكلا بسبب وضع الرئيس جيكوب رجله فوق الأخرى"، ورجع المشايخ إلى اجتماع آخر في يوم الثلاثاء من نفس الأسبوع ودعوا إلى المطالبة "لأجل تخلية الحديدة وإعطائهم أسلحة ومدافع"، ورغم استبدال وكيل سياسي آخر وهو الميجر إي. أس . ميك Major . E.S.MILK والذي لجأ إلى الأموال الطائلة، فنثرها و"الانت له صعاب القبائل، فتوافد عليه المشايخ والسادة... ولم يبق محافظ على صلابته أمام قوة الفلوس التي ينثرها إلا قبائل القحرى والزرانيق..."، إلا أن المطالبة بالاستقلال وجلاء المحتل البريطاني عن تهامة استمرت وتؤازرها هجمات المقاومة التهامية اليمنية حتى تم جلاء البريطانيين، فقد قرر الإنجليز الانسحاب التدريجي عن الحديدة ولم يحل يوم الجمعة الثاني عشر من جمادى الأولى 1339هـ / الحادي والعشرين من يناير 1921م حتى تم جلاء آخر جندي بريطاني عن تهامة.

- الوكلاء السياسيون للحكم البريطاني في تهامة

اختار الاستعمار البريطاني لإدارة الحديدة نظام الحكم العسكري المباشر، وأدار البلاد ضابط يسمى الوكيل السياسي البريطاني ويتبع المقيم السياسي البريطاني بعدن مباشرة، ويشرف الوكيل السياسي بالحديدة على جميع النواحي وبيديه تدار الأمور السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية، ولو أن ذلك نظرياً فقط، وسمحت الإدارة البريطانية بالمشاركة الشعبية تبعاً لما كانت الحديدة عليه في العهد العثماني، فاستعانت بمجموعة من الإداريين والتجار والوجهاء من أبناء الحديدة والذين أداروا شؤون البلدية والميناء وسمح لهم بممارسة العمل السياسي وطوال فترة الاحتلال البريطاني حكم الحديدة أربعة وكلاء سياسيون بريطانيون منهم مدنيان وضابطان من الجيش، وهم:

1- الدكتور ج. هـ. ريتشارد سون Richardson G. H .، بريطاني من مواليد الهند من أب بريطاني وأم آسيوية، ضابط ومستشرق يجيد اللغة العربية واللهجة التهامية، وكتب مجموعة من التقارير عن تهامة اليمن، وهي مهمة في جوانب متعددة وخاصة الجانب السياسي والاقتصادي في الربع الأول من القرن العشرين، فقد شغل منصب نائب القنصل البريطاني فترة طويلة ثم أصبح قنصلاً بالوكالة، عمل لديه محب الدين الخطيب ومدحه بسعة اطلاعه على تاريخ اليمن وقبائلها وبلدانها وشغل من 1333هـ / 1915م حتى 1342هـ / 1924م وظيفة مساعد الحاكم للشؤون السياسية بجزيرة قمران، وتركزت اختصاصاته في الأمن الداخلي "البوليس" بالإضافة للشؤون المالية والجمارك، وأثناء الحرب العالمية الأولى شغل أيضا الضابط السياسي في خفر سواحل البحر الأحمر وكان ممن شارك في الهجوم على الحديدة، بل وتحديد الأهداف لضربها لمعرفته بالمدينة التي عاش بها، وأمر بضرب مقر القنصلية فصبت عليها المدافع البريطانية نارها فجعلتها يباباً لكونها تحتوي على ملفات سرية ووثائق بريطانية وخشية من وقوعها في أيدي الأتراك، وإن نفت النخبة السياسية بتهامة فيما بعد ذلك وقالت إن غرضه من ضرب القنصلية هو أخذ التعويضات الباهظة، أصيب بمرض خطير في محرم 1338هـ / أكتوبر 1919م حسبما تدعي الوثائق البريطانية، ولكن الوقائع تثبت أنه تم سحبه بعد فشله في إطلاق البعثة البريطانية حيث اشتهر بإساءة معاملته لأهالي تهامة، فقد وصلت العلاقة العربية البريطانية إلى أسوأ مستوياتها في عهده ولتوقيعه معاهدة مع قبائل تهامة.

2- الميجر أي. اس. ميك. Major .E. S. Meek ضابط بالجيش البريطاني، تولى في محرم حتى جمادى الآخرة 1338هـ / أكتوبر 1919م حتى فبراير 1920م، استطاع أن يتقرب إلى القبائل وفتح حواراً مباشراً معهم ورفع الحصار البحري عن تهامة وحاول جعل الحديدة ميناءً حراً.

3- الكابتن جوردونتولى من جمادى الآخرة حتى شوال 1338هـ / فبراير إلى يونيو 1920م.

4- الدكتور إل. أي. استيل. L. A. Stele، تولى من شوال 1338هـ / يونيو 1920م حتى الثاني عشر من جمادى الأولى 1339هـ / الحادي والعشرين من يناير 1921م.

ثم بعد جلاء آخر جندي بريطاني ورحيل آخر وكيل سياسي عن الحديدة، قدمت القوات الإدريسية بقيادة سيف الإسلام مصطفى الإدريسي ممثلاً عن الإمام محمد بن الإدريسي، فدخل الحديدة في يوم الجمعة الثاني عشر من جمادى الآخر 1339هـ / الحادي والعشرين من يناير 1921م، لتبدأ تهامة فصلاً جديداً من فصول تاريخها الحديث وليرحل الاستعمار البريطاني عن أرضنا بالحديدة.