يضيع الإنسان اليوم في انتظار المجهول ويقف ضجراً مشوشاً أمام البيانات وتكرار الاجتماعات وترديد الحكايات.
لكن سؤاله يظل مثلما هو: إلى أين المسير؟ فالزمن يموت في الانتظار بينما الأيام تزيد ضراوتها كلما كثرت التفاصيل وتضاءل الأفق.
فما أصل الحكاية؟
في الماضي تجمعت أجزاء من شيفرات عشوائية في جينات نظام الاستقلال آنذاك مكونة شبحا رهيبا بداخله يتراكم ويكبر ويستبد بقناعات قادته وسلوكهم حتى أفصح الدهر عن ظلمة كانون المؤلمة.
من هنا كان يمكن الإجابة على ذلك السؤال الحيوي: ما هو الدرس وإلى أين المسير ومن أي أفق ينهمر صبح آخر ليجد البلد بداية مختلفة. مسنودا بما تعلمه حتى تلك اللحظة إن كان قد تعلم؟
لكنهم مع كل ذلك اختاروا له الذهاب إلى (عمق الزجاجة) بدلا من الخروج واتضحت المآلات بعد أن أفرغت صرة الأهداف محتوياتها في متاهة دموية تسمى الوحدة المحاطة بسور تاريخي غليظ من المفاهيم الملتبسة وأصبح على أهل الجنوب إما الدخول في حمى الموت البطيء أو الخروج إلى طريق آخر.
عرف الجنوبيون وطنهم لأول مرة بعد الشدائد العظام واتضحت لهم بصورة مختلفة أرضه وسماه وبحاره وكل تضاريسه وتبينت أهمية بلدهم الذي اعتبروه قبل الوحدة مجرد ساحات للهتافات المشتعلة ومنصة للمشاريع الوحدوية والقومية والاشتراكية.
كانت الأرض والسماء والإنسان مشروعا قوميا لبناء "دولة الوحدة" دون تمهل أو إدراك بأن الأحلام الأيديولوجية التي تقفز على الواقع ما هي إلا طريق متوحشة مجهولة المآلات.
تجلت علاقة الإنسان بالأرض وفهم الجنوبيون أن هناك رباطا سرمديا لا يمكن أن تمحوه مشاريع سياسية أو شعارات أو حتى صراعات داخلية وقد فهم الداخل والخارج أن الجنوب لن يكون من حصة أحد مهما كان، فهو لأهله حتى تذهب الأرض ومن عليها.
حسناً هذا الأمر الأكثر حيوية أصبح بديهيا الآن لكن الحكاية ما تزال غير مكتملة خاصة وأن الحرب تبذر الخوف والقهر في نفوس الناس الذين ينتظرون تطوراً مفاجئاً في حبكتها.
أولئك (الناظرون لغدهم) يفهمون بالتأكيد تعقيدات الحرب وجذورها ومساراتها وأصبحوا على دراية بأولويات التحالف وأدائه وأدواته وموقف العالم ويعلمون خطر الحوثي والإخوان والإرهاب وداعميهم.
ويدركون أيضا أنهم مع ذلك واقفون على شرفات الصبر لعل صبحاً يطل من نصوص البيانات والخطابات والوعود المتكررة مثلما كانوا دوماً، بينما الأحداث تمضي عاصفةً.
ثمة حقيقة ناصعة في الصراعات الدائرة وهي أن هزيمة الحوثيين أو إضعافهم بصورة دائمة، بالنسبة للمملكة، أولوية حيوية ولن تدخر أي وسيلة لتحقيق هدفها لكنها حتى الآن لم تحقق سوى ما جعل الحوثيين أكثر قوة.
أما أولوية الجنوبيين وقضيتهم الكبرى في المقابل فتكمن في المضي نحو استعادة دولتهم.
ومن أجل ذلك قدموا ويقدمون دماء عزيزة لا يستحقها أي "مشروع عربي" إن لم تكن عودة الجنوب في صميمه.
وهكذا تتبلور منطقة الوهن الحرجة في علاقة المملكة بالجنوب وهي الزاوية المظلمة التي يتم التأرجح حولها دون أن تدركها عين الواقعية التي انطفأت عشية يوم تاريخي وما تزال ترقب ضوءاً يلمع في ظلمتها.
الشرعية يقودها الإخوان، ولا أمل في أن تصلح أو تصبح شريكة حقيقية حتى على الورق، ورؤية المملكة حول الصراع في اليمن تتجاوز الحالة الجنوبية إلى تثبيت معادلة خطرة: الإخوان وقبائلهم في مواجهة الحوثي وقبائله.. طائفة ضد طائفة… ولا يبدو أن درس الإخوان قد استوعبه الجيران.. بينما البلد يتردى في مهاوي الحرب والفقر والضياع.
كل شيء غامض أيها "القادة الجنوبيون" بكل مسمياتكم وأطيافكم، إلا الدماء والأشلاء المتناثرة، فإنها أكثر وضوحا تظل طرية لا تمضغها الأرض، والسلام عليها، وإنما تُزرع فيها وتنمو وتزهر جراحاً وذاكرة مشتعلة.
لهذا عليكم أن لا تكرروا "الصمت" تجاه مشهد ضبابي قبل أن تطول المراحل وتتشعب دهاليز الصراعات أكثر ويضيع الجميع في متاهة دموية جديدة.
تدارسوا وتداركوا الفصل الأخير من الحكاية ولملموا جراحكم وصفوفكم وكونوا لشعبكم قدوة نزيهة وصادقة ولا تذهبوا إلى حروب لا نهائية كما يريدها الآخرون.