كنتُ قد تناولتُ مراراً ومنذ العام 2015م أهمية إعادة تأهيل القوات الأمنية الجنوبية بمختلف مسمياتها وتغذية مهارات وقدرات قادتها قبل أفرادها بمغذيات ثقافية وأخلاقية ومهنية تجعل منها نواة حقيقية لمؤسسة أمنية جنوبية وطنية، بما تحمل هذه النعوت من مدلولات جادة.
لكن هذا لا يمنعني من التوقف بصراحة عند الظواهر التي تنامت مؤخراً والتي تثير قلق الجميع، مواطنين وناشطين مجتمعيين وإعلاميين وقادة سياسيين.
تلك الظواهر التي كشفت ما يتوارى خلفها من هشاشة بنيوية وفوضى سلوكية وتفكك سياسي وضحالة مهنية وأخلاقية مخيفة، يعيشها بعض المحسوبين على أجهزة الأمن في عدن والمحافظات المجاورة.
ما سأتناوله هنا لا يعني بأي حال من الأحوال التنكُّر للأدوار المهمة التي لعبتها وتلعبها الكيانات الأمنية بمختلف مسمياتها في عدن وجوارها من حيث محاربة الجريمة والتصدي للجماعات الإرهابية وتوطين الأمان، وخلق مستوى من الطمأنينة بين الأهالي وتنفيذ العديد من المهمات الأمنية.
فنحن لن نتحدث مطولاً عن هذه المنجزات الرائعة باعتبار القيام بها هو الوظيفة الرئيسية لتلك الأجهزة، لكن سلوكاً سيئاً لفرد أو جماعة أو وحدة أمنية واحدة، يشطب عشرات الأضعاف من المواقف الجليلة لبقية الأجهزة والوحدات.
ومن هنا فإننا نتحدث عن ظواهرَ مقلقةٍ ومخزيةٍ يتصرف بها قلة قليلة من قادة وأفراد وطفيليين بزي رجال الأمن وبعضهم لا أحد يعرف من يتَّبِعون، لكنهم يتمتعون بسلطات وقدرات تجعلهم يمثلون دولة في وضع اللادولة.
إن تسخير أحدهم قواته المحسوبة على القوات الجنوبية للتدخل في نزاع بين فردين أحدهما من قبيلة هذا (الأحدهم) ونشر النقاط الأمنية للتقطع لقبيلة الخصم واحتجاز العشرات منها، يمثل جريمةً وحالةً من الهبوط الأخلاقي والمهني والوطني، يعدٌّ السكوت عليها جريمة لا تختلف عن الجريمة نفسها.
كما أن اقتحام أحد القادة الأمنيين لمركز الشرطة وتفجير معركة داخل مدينة مثل كريتر، من أجل إطلاق سراح أحد المعتقلين من أفراد قواته واستخفافه بكل المعايير المهنية والأخلاقية والقانونية هو أمر كان لا ينبغي أن يمر دون محاسبة حتى لو كان هذا (القائد) هو وحده من حرر الجنوب من البريطانيين والعفاشيين والحوثيين، لا أن نبحث عن فصيلة دمه ما إذا كان نوبياً أم صلوياً.
لأن المسألة ليست في نَسَبِه وقبيلته وفصيلة دمه، بل في سلوكه القميئ والمسيء إلى سمعة ومكانة وقيمة الجهاز الذي ينتمي إليه.
وما ينطبق على هذين المثالين ينطبق على أولئك الذين يقتحمون منازل الناس ويقلقون سكينة الأسر والمدنيين عموماً، أو الذين يتفرغون للسطو على الأراضي والعقارات، أو الذين يقيمون نقاط الجباية غير القانونية ويحصدون المليارات على حساب معيشة الناس وقوتهم اليومي، أو على من يحول النقاط الأمنية إلى بقعة للاعتداء على المارة والتقطع والسلب والنهب والقتل، في جريمة أقل ما يمكن أن توصف به بأنها جريمة تقطع وحرابة.
كل هذه الظواهر تمثلُ جرائم مكتملة الأركان لا يمكن أن يرتكبها من يزعمون أنهم حماة للوطن والمواطن، ولا يمكن أن تشير إلى ما يبعث الطمأنينة على المستقبل لأن من يقطع طريق أو يفرض جباية غير قانونية أو يسطو على أرضية أو جزيرة أو يقتحم مركز شرطة أو يقتل مواطناً أو مواطنةً، أو يقيم نقاطا غير قانونية للانتقام من قبيلة يكرهها وباسم المؤسسة الأمنية، يفعل كل هذا وهو قائد صغير سيفعل الكثير والكثير عند ما يغدو أكبر مما هو عليه اليوم، لا سمح الله.
أتصور أن استفحال وتفشي الجرائم المرتكبة باسم الكيانات الأمنية يعود إلى سكوتٍ جرى ذات مرة على إحدى هذه الجرائم لأسباب مجهولة، وهو ما تسبب في فتح شهية ذوي الضمائر الضعيفة والتربية السيئة، وتحت شعار "ما في حدا أحسن من حدا" .
وبدلاً من التنافس على تقديم النموذج الوطني الأرقى والأكثر نزاهةً وانضباطاً، جرى التباري والتنافس على ارتكاب تلك الموبقات التي يعتقد مرتكبوها أن ما يتمتعون به من نفوذ وقوة أو قرابة ومحسوبية سيحميهم من المساءلة والمحاسبة والوقوف أمام القانون.
وحتى لا أطيل في الاسترسال أشير إلى أن المؤسسات الأمنية في عدن، وكل محافظات الجنوب بحاجة إلى:
* البدء بمحاسبة المسيئين للوظيفة الأمنية النبيلة مهما كانت مكانتهم أو محسوبياتهم أو حتى أدوارهم السابقة، على افتراض أن لهم أدواراً محترمةً، لأن أمثال هؤلاء يقدمون نموذجاً سيئاً لرجل الأمن، ويقدمون عنصر تثبيط وإحباط للشرفاء من رجال الأمن ممن لم يتلوثوا بمثل هذه الأعمال المسيئة والممقوتة.
* إعادة هيكلة الأجهزة والوحدات والمسميات الأمنية وإلغاء التسميات الشخصية أمثال "لواء القائد فلان" و"وحدات القائد علان" وتسمية الوحدات الأمنية بمسمياتها المهنية والتخصصية ومركزة قيادتها وربطها بغرفة عمليات موحدة.
* تدوير وظائف ومسؤوليات القادة بين مختلف الوحدات حتى لا تتحول الوحدة أو المؤسسة الأمنية إلى إقطاعية باسم قائدها كما هو قائم في بعض المسميات.
* تنظيم حملات تربوية وتوعوية أخلاقية ومهنية ووطنية لتعريف رجال الأمن بأنهم ليسوا فوق المواطنين ولا متسلطين عليهم وإنما خدامٌ لهم وحماة لحياتهم وكرامتهم وإنسانيتهم، وتعليم هؤلاء الجنود والضباط بما في ذلك القادة، بأن المواطنين هم الأصل ورجل الأمن هو التابع والحامي والمؤتمن على حيوات هؤلاء المواطنين.
* وفي هذا السياق تأتي أهمية نبذ ثقافة الاستقواء والتعالي على الناس وازدراء روح المواطن العادي والإنسان البسيط، فعامل النظافة البسيط الفقير قد يكون أكثر عطاءً من بعض القادة الطفيليين والمتطفلين.
وأخيراً:
لن يهزم الجنوب بمكائد الأعداء وحربهم الإعلامية والنفسية وحتى المسلحة، لكنه قد يهزم من الداخل بسبب السلوكيات والممارسات المقيتة التي يرتكبها بعض المحسوبين على مؤسساته السياسية أو الأمنية أو التنفيذية، والأسوأ من هذا أن تمر تلك السلوكيات والممارسات دون محاسبةٍ، مراعاةً لاعتبارات لا علاقة لها بالحق والقانون ولا بالوطنية والمواطنة.
فالتغاضي عن الجرائم الصغيرة يمثل حافزاً لارتكاب جرائم أكبر وأشد ضرراً وخطراً.
أقول هذا مع كل التقدير والتحية لشهداء وجرحى المؤسسة العسكرية والأمنية الجنوبية وشرفائها ممن لا يزالون يمثلون النموذج الوطني الجدير بالاحترام والتبجيل، فيجترحون المآثر ويسطرون الملاحم البطولية دونما إساءة لقيمة ومكانة وشرف المهنة وقدسيتها، وهم كثر لكنهم غير مرئيين، لأن الإعلام العشوائي والمعادي لا يركز إلا على السيئات وهي الشذوذ وليست القاعدة.
(وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ).
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك