ماجد زايد
انتحار "فيصل" وواقع الشباب في زمن الحرب
قبل أن ينتحر فيصل في جامعة صنعاء، كان قد انتحر مرات عديدة.
انتحر مع ذاته نفسيًا ومعنويًا وحياتيًا دون أن يخبر أحدا، لكنه حينما شاهد يوم أمس تلك الشجرة الواقفة بشموخ مع بؤسها وحزنها قرر أن يشنق نفسه عليها للمرة الأخيرة.
أنهى على ظهرها حكايته وحياته وانتصر على كل شيء، برأس مرفوع، وضمير رجولي، وأخلاق لا يمكن حدوثها أو تجاهلها.
الانتحار بطولة وقرار ذاتي، ونجاة من وطأة الآلام والخذلان والفشل المتراكم في قلوب الشباب.
الانتحار أمام الناس ليس أمرًا صعبًا أو مخيفًا للذين أرغمتهم الحياة على الموت الفعلي، هو إرادة بطولية وحرية استثنائية وشجاعة نادرة استحكمت ذاتها، وقرر بطلها الرحيل عن ذاته بصمت، دون أن يطلب الرثاء، أو البكاء عليه.
لماذا نبكي على الأحرار؟! ونحن في مأساة تغشى حياتنا وأيامنا، ونحن نخشى ترك حياة لا قيمة لها، حياة عبثية ومملة وكارثية..
فيصل كتب إلينا أخيرًا ثم انصرف في حال سبيله، قال في كلماته الأخيرة: ليس لي أبٌ ولا أم.. لا حياة ولا وطن.. لا مهدٌ ولا كفن.. لا قبلة ولا حبيبة.
لليوم الثالث لم آكل.. لا الكثير ولا القليل.. وهذا الفشل لا يكاد يتوقف أو يتأخر.. يأتي دفعة بعد دفعات قاتلة.. وأهلي هناك.. ينتظرون أن أنقذهم من حياة البائسين.
وسنواتي العشرون وحدها قوتي.. للبيع هي سنواتي.. إن لم يحتجها أيّ إنسان.. فليأخذها الشيطان.
بقلبٍ نقيٍّ سأذهب.. وإذا ما اضطررت.. سأشنق حياتي.. وإذا بقيت سيمسكونني ويشنقونني.. ويهيلون التراب المبارك عليّ.. فينمو عُشبٌ قاتل.. على قلبي الحزين..
قد لا تعلمون هذا، ولكن المئات من الشباب اليمنيين قد انتحروا بالفعل في واقعهم ونفوسهم وقراراتهم لكنهم ينتظرون إيجاد شجرة تغريهم للمغادرة، هذا واقع الشباب في زمن الحرب، زمن الخوف والانتحار واليأس المطلق.. زمن الأوغاد وأبنائهم، زمن السفلة وتجار الحروب.
لم يعد هنا سوى مقاتل ومقتول وجريح ومتطرف أو محبط ومشرد ومنتحر ويائس.
هكذا صنعت بنا الحرب، وهكذا جعلتنا في ثناياها وبشاعتها.. مجرد عالة تعساء يتمنون الموت للأبد.
ولا أحد يهتم..
أو يفكر بما تجني يداه..
هذه الحرب أوجعتنا كثيرًا، قهرتنا ومزقتنا ودمرت أخلاقنا وترابطنا، لقد ارتكبت في حقنا أبشع ما لا يمكن للمجرمين الكبار تخيله.
لقد وصلنا للهاوية ثم تجاوزناها بسنوات، لم يعد هنالك أمل ملموس أو أحلام متواضعة أو شباب متطلعون، أو حياة في زوايا هذا الوطن المدمر والمقسم والملعون.
معظم شباب الوطن مدمرون لا يرغبون في البقاء أكثر، حتى خيار الموت صار أرحم في توقعاتهم مما تجرعوه.
هذه الحكاية المكررة بالملايين أعدادها وضحاياها بالملايين والمتضامنون معها المتأثرون بها بالملايين، والمتسببون فيها يعدون بالأصابع.
رحمة الله على "فيصل"، حين أدرك أن شر الحياة أقوى من خيرها غادر بصمت، حزم أمتعته واعتلى شجرة باهية وصار في سبيله، كالملائكة الأوفياء، لم يكن بحاجة للبقاء في حياة لا أحد يطيقها، ولا أحد يعرف معاناته فيها، ولا أحد يعرف ماذا يحدث له في ثناياها، غادر فقط وترك العالم يقرأ رسالته وهو يرتعش من صدمة الكلمات، من حقيقة العالم، وبشاعة المتطرفين.
تركنا في ذهول، طار فوق رؤوسنا جميعا وفجر من أعلى مدينتنا ضوءًا أخفى ظلام الليل وكآبة النهار.
نهاية فيصل تقترب بشكل كبير من تصور ألير كامو عن الإنسان متجاوزاً القيم البالية، عن عدم وجود معنى للحياة، وعن عدم وجود جدوى لكل ما يفعله الإنسان من عملٍ أو مجهود.
كل ذلك كان سيضيع سدىً بما أن نهاية البشر في الأخير هي العودة من جديد إلى العدم أو اللا شيء.
فيصل وصورة الشجرة ورسالة الوداع، أشعل بقلوبنا حماسة المضي قدمًا في طريقه، طريق الحرية والتمرد والنجاة بالذات، مع ابتسامة أبدية وحزينة لا يمكن لأيّ قوة في هذا الكون إطفاءها، ستبقى ذكراه للأبد شاهدةً على بشاعة هذا البلد، عن سوداوية النضال وصعوبة الطريق، عن الخوف في جانبي العبور، عن الوحدة والغربة وذكريات الراحلين.
لن تتركنا رسالته وحزنه المهول، لن تتركنا حكايته وصورته المعلقة في رؤوسنا، لن تترك الطغاة في ملكوتهم، ستطاردهم كالروح المنتقمة كل يوم حتى تتحقق العدالة من اله عظيم.
سيعرف التاريخ حقًا هؤلاء الخالدين مع أحزانهم، من قرروا الرحيل بإراداتهم، بلا مقدمات، منهزمين، معترفين، ومعتذرين للعالم من بشاعة العالم والحياة.
هؤلاء المنتحرون هم نحن، وهذا شعبنا الوحيد ينتحر بعد أن يئس من الرحيل، وعن التسول في آخر الطرقات البعيدة، بعد أن جعلوه ملقيا على الأرصفة الأخيرة من الوطن المدمر محاولًا النجاة بنفسه من هذا الجحيم اللعين.
لقد هلك الناس ويئسوا من حياتهم، بينما المترزقون بموارد الوطن ورواتبه وحصص الموالين والمشمولين يدافعون عن ثوراتهم وقياداتهم، وحيواناتهم، وعن الإمام الحسين وصور الوعول وثورة الماضي بشقيها المتحاربة على السلطة والثروة والحقائب المليئة بالمال.
يدافعون عن مصدرهم الوحيد للسلطة والمستحقات، والشعب حمل ذاته وذهب للبحث عن شجرة أخيرة ترسله صوب السماء.
بينما المتحاربون على السلطة في ذات التوقت يتقاسمون الموارد والرواتب والثروات المكدسة لأنفسهم وقطيعهم فقط والشعب بمفرده يموت عند حواجز المغادرين، يموت أو يغادر للأبد.
عليك السلام يا رفيق الحزن والآلام، في سبيل الخالدين يا آخر الأحرار. كن بسلام عند إله السلام في جنان الخالدين.
لك الجنة أيها الشجاع، ولهم الجحيم، عليك السلام وعلى ابتسامتك الحزينة السلام، وعلى عنفوانك وقلبك السلام ولروحك مني ألف قُبلة وسلام.
* من صفحة الكاتب على الفيسبوك