حسن العديني

حسن العديني

تابعنى على

كانت حالة ثورية

Thursday 03 March 2022 الساعة 02:23 pm

لم يكن في نيتي أن أكتب عن 11 فبراير لمناسبة 11 سنة عليها، حتى قرأت سيل التعليقات المتضاربة في النظر إليها.

من الطبيعي أن يُجمع أنصار النظام السابق على موقف واحد يستهجن الحدث ويدينه، ويعتبره مغامرة خرقاء نتجت عنها تداعيات أدت إلى حرب حولت البلاد إلى صلصال من نار.

ولا يكف الأنصار عن إظهار التشفي والسخرية ممن خرجوا في فبراير، ثم لا ينفكون يبعثون رسائل لعموم الشعب، مفادها أن معاناته وعذاباته تسبب بها أولئك الذين كفروا بالنعمة، وذهبوا بالطيش وبالغواية ينشدون المجهول، أو أنهم خرجوا على النظام والقانون ابتغاء مرضاة قوى أجنبية خططت لما سمي "الربيع العربي".

يتفق مع الأنصار قطاع واسع ممن شاركوا في الأحداث، ثم تملكهم الندم من شعور دفين بأنهم وقعوا في الخديعة.

ويشارك هؤلاء الغضب مما جرى قطاعٌ عريض لم يناصر النظام، وفي الوقت نفسه لم يتظاهر ضده.

غير أن فريقًا ممن اعتصموا وتظاهروا، احتفل بالتصفيق والبهجة، وعنده أن الثورة نجحت ما دام رأس النظام خرج من القصر، وفيهم من يزيد بنبرة لا تخفي التشفي بأنه بعد أن خرج غادر الدنيا في مشهد بائس.

وأما فريق ثالث، ولديه كل الحق عندما يعترف بأن الثورة فشلت، ولكن بقي منها روح التضحية لدى الشباب، وبقيت دوافعهم الوطنية النبيلة.

لعل هذا التضارب في فهم ما جرى، يوجب البحث العميق من أهل العلم، وأقصد المشتغلين في الحقول المعرفية، خصوصًا في السياسة والاجتماع، دون أن أحشر معهم الفاعلين في ميدان السياسة. 

إن العالم لا بد أن يتصف بالتجرد والحياد، بينما يتحيز الناشط لموقفه، وقد يبالغ في دوره، ويضفي عليه ألوانًا وطنية وأخلاقية مبهرجة في حين ينتقص من أدوار غيره، ويبالغ في تشويهها.

هناك استثناءات بالطبع، ولكن الذكريات -سموها مذكرات- المنشورة لسياسيين وقادة عسكريين يمنيين تواجدوا في المشهد خلال العقود الماضية، برهنت على أنهم وقفوا جميعًا أمام المرايا بعد أن أجروا عمليات تجميل أو وضعوا مساحيق على وجوههم، ثم وقفوا فوق رافعات تعلي قاماتهم، وفي الوقت ذاته، فقد أخذوا كل ما وصلت إليه أيديهم من الأوساخ، وألقوها في وجوه من كانوا معهم، من الخصوم دائمًا، ومن الرفاق كثيرًا.

ذلك لا يعفي الذين شاركوا في الأحداث من موقع القيادة، أن يدلوا بشهاداتهم، ومن الأفضل أن يخضعوا لتحقيق ومساءلة يتولاها أهل العلم. 

إن كثيرين سوف يكتبون على هواهم، ولكن الاستقصاء يكبح التزوير، ويحد من فاعلية تلوين الصورة وتزويرها، وكذلك فقد يحمي الآخرين من التشويه والتدمير. 

على أن أهم من أقوال القادة، شهادات الشباب الذين عاشوا التجربة في صميمها، واكتووا بنيرانها.

إن التحري والبحث العلمي لازم لاستخلاص العبر والدروس من ناحية، ومن الناحية الأخرى لتوفير مادة كافية يرجع إليها المؤرخون حين يكتبون ويحللون احداث لحظة تاريخية عصفت باليمن ونقلته إلى المجهول. 

وليس من باب التجني القول بأن القارئ للتاريخ اليمني يصادف فجوات هائلة طواها النسيان، وأنه في ما يجد ويقرأ يقف على تناقضات مريعة في تصوير الحوادث والوقائع. 

مرد ذلك غياب المعلومات والتوثيق، وغلبة الهوى والهواية.

 إن الهوى جرَّد الذين كتبوا من الأمانة وتوخي الدقة، وأما الهواية فقد كانت سبيل كثيرين، فقد ارتادوا طريقًا لا يعرفون مسالكه، وخاضوا في علم لا يملكون أدواته.

وهكذا لا يصح الوقوف أمام ما جرى في 11 فبراير، بالإدانة وبالاستهجان، رغم الملابسات والظنون، كما لا يكفي إحياء ذكراه بالابتهاج والتغني بالبطولات. 

إن البحث العلمي مهم وضروري، وهو واجب أهل العلم وحدهم. وأما من سواهم فمن حقهم أن يبدوا آراءهم في ضوء ما رأوا وسمعوا. 

والحال أنه بالنظر إلى الشعار الذي رفعه الثوار، فإن هدفهم تحقق، والثورة التي يتحدثون عنها انتصرت. 

كان هتافهم الصارخ “الشعب يريد إسقاط النظام”، واختصرته لافتاتهم في كلمة واحدة “إرحل”.

لقد توقفوا هنا، ولم يقولوا ماذا بعد؟!

والحق إن الثورة عملية هدم وبناء، وإسقاط النظام القديم لا بد أن يستتبعه إقامة نظام جديد مبني على أسس وقواعد فكرية واضحة ومتينة.

 ولو أن العملية تستهدف الهدم وحده، فإنها فوضى مجردة، ولو أنها بجانب الدعوة إلى الهدم نظرة إلى المستقبل وفق رؤى يلفها الضباب، فهي مغامرة تستطيع أن تدمر، ولكنها لا تبني ولا تقيم.

 حدث هذا كثيرًا في التاريخ، حيث خاطب المتصدرون للأحداث رغبات الشعوب وتطلعاتها بشعارات لم يلبث بريقها أن انطفأ في حصاد الفواجع والمصائب.

وبحسب المواريث النظرية، ومن واقع التجارب الأصيلة في التاريخ، فإن الثورة يسبقها فكر خلاق، وتوجهها قيادة مقتدرة وتنظيم سياسي فعال.

 وفي ما جرى في فبراير كان الفكر غائبًا، وتوزع التنظيم بين قيادة متحالفة في الظاهر، ومتنافرة متضاربة المصالح حين تختبئ وراء الحجب والأستار.

 ولقد لاح أن أهواء خاصة كانت تحركها عندما وافقت على المبادرة الخليجية فور طرحها على الطاولة، حيث طار ممثلوها إلى الرياض، ووضعوا توقيعاتهم دون دراسة سابقة متمعنة تحسب تأثير المبادرة على المستقبل. 

ولقد صفقت لانسحاب رأس النظام والتحمت بالنظام ذاته، بل لعلها قبلت أن تكون ذيلًا له. 

قد يساق تبرير لهذا التصرف بالقول إنهم أرادوا اختصار الدم، وهذا قول يمكن أن تزعمه قيادات تقيم في الماضي، وأما القيادات القادمة من مدارس ثورية، فهي تعي أن نصف الثورة هي كارثة كاملة.

 ولقد كانت تستطيع بنظرة متأنية أن ترى بوضوح أن التفاعلات السياسية والاجتماعية لن تقود إلى قيام نظام سياسي ديمقراطي عند إزاحة الشباب من المشهد، وهو القوة الرئيسية التي تحدت البطش، وكان استمرارها كفيلًا بأن يعدل الميزان في المستقبل.

بعيدًا عن تلك القوة، جرى التوقيع على ورقة يمكن أن يحرقها أي عسكري وأي قائد مليشيا، وبناءً عليها نشأت شريعة معلقة في الفراغ، إذ إن الجيش في اليمن لم يكن في أي يوم حاميًا للوطن وحارسًا للشرعية كما يتأكد من سلسلة الانقلابات على مدى التاريخ اللاحق للثورة في 26 سبتمبر و14 أكتوبر.

والشرطة من جانبها لم تكن حارسًا للسكينة العامة، ضامنًا للسلم الأهلي.

وكذلك، فإن ما حدث في فبراير لم يكن ثورة بالمعنى الحقيقي، وإنما حالة ثورية افتقدت الفكر الخلاق والقيادة الواعية، أو أنها كانت مشروع ثورة أجهضت بالقصد أو بالجهل.

على أن هذا لا يعني تحميلها وحدها مسؤولية الانهيار الكبير الذي لحق بالبلاد، فإن الأهوال لا تأتي من الفراغ، ولا تنبعث من المجهول، والتراكمات الكمية تؤدي إلى تغيرات كيفية طبقًا “لجدل هيجيل”؛ الفيلسوف الألماني العبقري الذي أيده التاريخ منذ بدأت الحياة على الأرض، وإلى أن تنتهي.

* نقلا عن "المشاهد نت"