معضلة الحوثيين اليوم هي نفسها معضلة الأئمة الزيديين القديمة في اليمن، مع بعض الفروقات:
يبدأ الداعي الزيدي حركته محتجّاً، باسم شعارات ومبادئ تجريدية طائشة، لتجييش المجتمع ضد الوضع السياسي القائم والمقيّد أصلاً بضرورات مادية وعوائق من صنع التاريخ والطبيعة.
وهي مجموعة راسخة من العناصر لا يمكن تجاهلها أو القفز عليها.
إذ تفرض هذه العناصر على السياسي الناجح في اليمن الالتزام بنمط خاص من الخطاب والسلوك، نمط يجب أن يكون على مستوى مضاعف من المرونة والحكمة والنباهة والاعتدال.
بعد أن يتمكن الداعي الزيدي من تخريب الوضع القائم والحلول محلّه كإمام للدين والدنيا، سرعان ما يجد نفسه وجهاً لوجه أمام قيود هذا الواقع وشروطه المادية وعوائقه التي تتحدى الشعارات والمبادئ والمُثل المجردة، (وهي بالنسبة للإمامة الزيدية التقليدية عبارة عن مبادئ ومُثل يقوم الإمام بصياغتها بلغة دينية مذهبية).
أي أن تلك المبادئ والمُثل المجردة نفسها تتحول مع مرور الوقت إلى أداة معيارية لمحاكمة الوضع القائم الجديد ونقضه من داخله!
وهكذا، يكون الإمام أسيراً ومُستَعبَداً في قفص شعاراته وحججه التي احتجّ بها على الآخرين، من قبل، لشرعنة تحركاته.
فهو لم يوفّر حتى الحجج السقيمة التي ظل أنصاره يرفعونها ضد الضرورات الاعتيادية الواقعية لأي سياسة عملية ناجحة ومُرْضيَة لأكبر عدد من الناس.
فإذا أراد الإمام أن يحتفظ باتساق صارم مع شعاراته، سيكون في تعامله مع الواقع مشلولاً وكسيحاً وعاجزاً عن التصرف السياسي الخلّاق، لأن كل شيء يحدث سيكون هدفاً ثميناً للاصطياد والاستعمال في الحُجاج المضاد الذي يرفعه الخاسرون أو الطامحون أو المتضررون من وجوده على قمّة السلطة.
لكن إذا أراد التحرر من أسر شعاراته المحلِّقة، وهذا يعني خيانتها والتناقض معها، فهذا يتطلب منه أن يشنّ حرباً وحشية دائمة لإسكات وإرهاب المحاججين والناقدين، لكنه سيتعب في النهاية، وشوكة المحتجين لا بد أن تقوى عند أقرب فرصة من ضعف أو وهن.
ولهذا كان التاريخ الزيدي عبارة عن تكرار رتيب ومضجر للشيء نفسه تقريباً، حركة دائرية تعيد إنتاج ذات الوقائع والوقائع المضادة دون تعلُّم يسمح بالمفارقة والتراكم الذي يعبّر عن نفسه في صورة من التطور الإيجابي الخطِّي من الأدنى إلى الأرقى على مستوى الفكر والعمل!
يروي الرحالة الإيطالي سلفاتور أبونتي قصة من شأنها أن تبيّن إلى أي درجة يمكن أن يكون الإمام الزيدي مكبَّلاً إلى عمود شعاراته ومنظومته العقائدية الجامدة أمام حركية الواقع، وإلى أيّ مدى يمكن أن تجعله تلك الشعارات ذليلاً أمام المعترضين باسمها.
علماً أن الاعتراض العمومي في المذهب الزيدي هو امتياز حصري للهاشميين الفاطميين.
تقول القصة:
إن جنود الإمام يحيى حميد الدين عندما سيطروا على تعز، في نهاية الحرب العالمية الأولى، غنموا أربع سيارات فخمة، وتقرر إهداء واحدة منها للإمام، "وبعد أن فحصها الإمام بدهشة كبيرة وعناية عظيمة أمر بإيداعها في أحد المخازن".
في أحد الأيام، نزل الإمام يحيى عند رغبة وزير خارجيته التركي راغب بيك، وقرر استعمال السيارة للذهاب بها إلى المسجد.
تجمّع الناس حول السيارة بجوار قصر الإمام، وخرج من بينهم شخص يسمّى -بحسب أبونتي- "السيد قاسم" متجهاً نحو السيارة "وفي إثره جماعة من المتعصبين"، واقترب من الإمام الذي كان يهمّ بركوبها، قائلاً له بصوت أجشّ: أتجرؤ يا إمام الزيدية على ركوب هذه الآلة الجهنمية الممقوتة؟
يضيف أبونتي: ولمّا كان الإمام لا يرغب في إيجاد خلاف ذي صبغة دينية، فإنه أجاب الرجل بقوله: أنا؟ حتى ولا أفكّر في ذلك.. ثم وضع سيفه الذهبي حول رقبته وهو ممسك به بيديه كالميزان على الطريقة البدوية وتوجّه على قدميه نحو المسجد"، (سلفاتور أبونتي، "مملكة الإمام يحيى"، ص82 و83).
لقد اضطر الإمام إلى الإذعان ببساطة، لأنه لم يكن جاهزاً للسجال، لم يكن يمتلك ردا.
مع أن المسألة التي أثيرت تافهة، لكن حتى أتفه الأمور يمكن استخدامها في المناكفة لكشف الجانب المزيَّف من الشعارات المتشددة والطائشة، وإظهار قابليتها المزدوجة لخدمة الشيء ونقيضه.
ولكُم أن تتخيلوا الآن معضلة الإمامة التي جاءت على أنقاض أزهى عصور اليمن وأعظم صروحه السياسية على الإطلاق: الجمهورية اليمنية!
* من صفحة الكاتب على الفيسبوك