محمد العلائي
سياسة اليمن الخارجية ودهاء وعبقرية "صالح"
السياسة الخارجية لـ"الجمهورية العربية اليمنية"، خلال فترة "الحرب الباردة" إلى 1990، جديرة بالدراسة واستخلاص العِبَر بشأن الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها العلاقات الخارجية لبلد حديث التكوين وفقير الموارد كاليمن.
كان "الحياد الإيجابي" مبدأ نصَّت عليه أهداف ثورة 26 سبتمبر 1962، لكن النظام الجمهوري في البداية، ورغم اعتراف معظم دول الشرق والغرب به، لم يكن بمنأى عن التجاذبات الدولية والإقليمية في سنوات الحرب بين الجمهوريين وفلول الإمامة.
تدريجياً، ومع مرور السنوات، لا سيما بعد المصالحة الوطنية واعتراف السعودية بالنظام الجمهوري "المعتدل" في صنعاء، استطاع اليمن الشمالي أن يتموضع سياسياً في نقطة نموذجية سمحتْ له بممارسة علاقات دبلوماسية متوازنة ومعتدلة مع دول الجوار ومع العالم بقطبيه المتنافسين الشرقي والغربي.
وهو تموضع حسَّاس لا شكّ أن نجاحه يتطلب درجة عالية من الدهاء والبصيرة.
فأنتَ في نهاية المطاف بلد صغير وهامشي، ومن السهل على أحد الأقوياء أو الأثرياء استتباعك تماماً أو مصادرة شخصيتك الدولية أو فرض العزلة عليك.
وهنا يأتي دور عبقرية السياسة للافلات من هذا المصير أو مراوغته والاحتيال عليه، أقصد الافلات من الاستتباع أو العزلة، أو الافلات من خوض صراعات عسكرية غير متكافئة تحولِّك إلى أنقاض.
المصلحة الوطنية في هذه الحالة تكمن في التفاعل المرن لبلدك مع الجميع، والاستفادة من الجميع.
ولعل سياسة الرئيس علي عبدالله صالح الخارجية خلال تلك الحقبة هي أنجح التطبيقات العملية الممكنة لهذا النهج السياسي في علاقة اليمن الجمهوري مع دول الجوار والعالم.
ومع أن المعارضين "الراديكاليين" المرتبطين باليسار القومي والماركسي في الشمال، ظلّوا يقدمون خطاباً يتهمون فيه نظام صنعاء بالتبعية للسعودية والقوى الامبريالية الغربية، إلا أن الواقع كان يقف ضد هذه التهمة.
على كل الأصعدة، لم يكن اليمن الشمالي على التزام [كامل] بالولاء لأي محور دولي أو إقليمي، لا بالايديولوجيا ولا بالسياسة ولا بالاقتصاد ولا بالتسليح.
لقد احتفظتْ صنعاء بهامش جيّد من الحرّية في علاقاتها الخارجية.
يكفي أن نذكر كيف احتفظتْ بعلاقات طيبة مع موسكو وواشنطن في نفس الوقت.
خلافاً للنظام في جنوب اليمن الذي رهن مصيره كُلّياً بالمحور الشرقي، والتزم عقيدته الثورية وعانى بسبب ذلك من العزلة السياسية مع معظم دول العالم بما في ذلك دول الجوار.
لن نخوض في التفاصيل، فالمطَّلع على تاريخ تلك الحقبة قد يدرك فحوى ما ذهبت إليه.
وبالنظر إلى الظروف التي تعصف باليمن في الوقت الحالي، فإن من الحكمة الاصغاء إلى ما يمكن أن يعلمنا إياه التاريخ المجيد للزمن الجمهوري.
ملاحظة:
أستطيع أن أعرف مسبقاً ما سيعلِّق به البعض على ما ورد أعلاه، سيركزون على الاصطياد في تقييمي الإيجابي للصورة التي كانت عليها مجمل العلاقات الخارجية لليمن الشمالي، في تلك الحقبة، وخصوصاً علاقة اليمن مع السعودية التي أعرف أنهم يحكمون عليها وفقاً لتصورات نظرية مثالية بعيداً عن فكرة الممكن السياسي.
معظم ما سيقولونه في هذا الجانب ينتمي إلى المحفوظات التاريخية والمسلّمات والأفكار الجاهزة التي نعرفها كلنا من الخطاب السياسي المعارض لحكم الرئيس صالح.
مشكلة تلك المحفوظات والأفكار والمسلّمات هو أنها لم تخضع للمساءلة والنقد في ضوء التطورات المرعبة التي تشهدها بلادنا منذ 2011 إلى اليوم.
* من صفحة الكاتب على الفيسبوك