المصلحة وفقاً للواقعية السياسية هي من تحرك سياسات الدول، وحين يتم استغلال كل مصادر القوة لإثبات الذات والاستمرار والبقاء وتمرير الأهداف وفرض ما تُريده الدولة وبما يخدم تطلعاتها ووجودها، فهذا بلا شك نجاح فعلي يؤكد أن المصالح لا الشعارات هي من تثبت في الواقع، والدول الذكية هي من تعزز شبكة مصالحها ووجودها وتستخدم أوراق القوة التي بيدها لتحقيق ما تريد ودرء ما يحاك ضدها، وفي مثال حي وناجح نرى شبكة المصالح السعودية المتشعبة والمتغلغلة مع كبار أقطاب العالم، والتي من خلالها نجحت في إرغام بايدن ومن قبله أردوغان وغيرهم الكثير على التراجع عن ما أعلنوه من عداوة لها، فالمصالح وقوة المال والاستخدام الأمثل لأدوات القوة الأحفورية -النفط- تسقط كل الشعارات التي صدقها البعض من بايدن والغرب عموماً.
باعتقادي إن المملكة العربية السعودية تمضي بخطى ثابتة وتؤسس لحقبة جديدة في تعاملها السياسي العالمي وتخلصها من عقدة الإلحاق الدائم بما يريده ساسة البيت الأبيض، وخلال وصول الأمير محمد بن سلمان إلى مقاليد مفصلية في إدارة الأمر السياسي بالمملكة اختط نهجا مغايرا نوعاً ما، يسعى فيه لتعدد الوجهات والأحلاف والعلاقات التشاركية مع دول الشرق والغرب، ولعل ما تم خلال وصول الرئيس الأمريكي بايدن إلى مدينة جدة وتعمّد إهانته من خلال استقبال باهت قام به أمير مكة المكرمة خالد الفيصل في مطار جدّه، للرئيس الذي توعّد بعزل محمد بن سلمان والمملكة في السابق نتيجة اغتِيال الصّحافي السعودي جمال خاشقجي، رسالة واضحة بالإهانة والتّجاهل، تمامًا مثلما فعل، بطَريقةٍ أو بأُخرى، بغريمه الآخر، رجب طيّب أردوغان الذي غادر المملكة دُونَ أن يحصل على “ريال واحد”، أو أيّ عقد باستِثماراتٍ سعوديّة تجاريّة أو عسكريّة حتّى الآن على الأقل.
بايدن الذي وصل إلى السعودية مكرهاً كي يحظى بوعود نفطية واستثمارات اقتصادية تنتشل الاقتصاد الأمريكي المثقل بتبعات التضخم غير المسبوق نتيجة لسياسات بايدن المتخذة ضد روسيا جراء هجومها على أوكرانيا، بالإضافة لرغبة سيد البيت الأبيض في الهروب من جملة مشاكل داخلية وذلك بتحقيق انتصار معنوي وسياسي في حال نجح بالحصول على موافقة لإقامة علاقات ودية عربية إسرائيلية، وإقامة ناتو عربي تتزعمه تل أبيب وواشنطن، لتضمنا معاً استمرار سياسة الترهيب وخلق غول اسمه -إيران- يهددون به العرب، كل تلك الأماني فشلت، وتبخرت قبل أن يطرحها بايدن الذي كان حري به أن يتابع ما قامت به الدول العربية استباقاً لزيارته، كنأي مصر عن تشكيل الأحلاف العسكرية وقيام أبوظبي بإرسال سفير إلى طهران، وقبل ذلك التفاوض السعودي الإيراني بوساطة عراقية، وهذه رسائل تفسر بأن هناك رغبة عربية في احتواء الخلافات والتوصل إلى تفاهمات واتفاقات تضمن للجميع الأمن وعدم دعم التطرف والإرهاب أو تهديد المصالح المشتركة وأمن المنطقة، وهذا بلا شك لا يعني سوى أن العرب ملوا من الابتزاز الأمريكي، ومن شخصيات "كاذبة وحاقدة" كشخص بايدن، وتعلموا من دروس الخذلان الأمريكي الذي عرض المنطقة وشعوبها للإرهاب وتخلى عنها وعن أمنها خلال الفترة الماضية ودعم سراً وعلانية كل موقف عدائي ضد السعودية خاصة والخليج عامة، وما رفعه للحوثيين من قوائم الإرهاب إلا دليل واضح للرغبة الجامحة لدى بايدن في إلحاق الأذى باليمن وبالسعودية والإمارات من خلال غض الطرف عن كل إرهاب الحوثي، بل ومحاولة الضغط لقبول الحوثي كأمر واقع لا مفر منه لليمن والمنطقة.
غادر بايدن يجر ذيل الخيبة وعاد إلى البيت الأبيض بعد قمّة جدّة خالي الوفاض، عدا بعض الاتّفاقات والتفاهمات “الأوّليّة” التي لا تخدم واشنطن أو تلبي تطلعاته التي جاء من أجلها، وإنّما دولة الاحتِلال الإسرائيلي، المشكلة الحقيقية لبايدن أنّه كان لديه هوس أن يكون رئيسا لأمريكا بأي طريقة، واليوم يدفع ثمن رغبة قديمة، بالتراجع لأجل الواقعية السياسية التي تتحرك الدول وفقا لها.