كان بقاء صالح في صنعاء حفظاً للملامح اليمنية، إما وينجح في اليمننة، لهذه الجماعة، أو يعلن الرفض ولو كلفه ذلك دمه.
وفي الذكرى الخامسة لانتفاضة ديسمبر المجيدة، علينا أن نتذكر، هذا ديسمبر.. ذكرى وتذكرة.. بياناً وتبييناً للأحرار، أن عليهم السلوك مسلك علي عبدالله صالح.
فهذه الليلة قبل خمس سنوات كان علي عبدالله صالح يحشو بندقيته برصاصته الأخيرة ويقول: المجد لليمن، الموت ولا المذلة، أنا علي عبدالله صالح، وأطلقها وطار إلى السماء.
كان علي عبدالله صالح وبالثلة التي معه يقاتل نيابة عن كل اليمنيين، باسم كل اليمن، حفظاً لليمن.
كان يقاتل وهو يدرك أنها النهاية والعظماء يقاتلون فقط طلباً للنهاية، انتهاء الحياة، وهذه النهايات فتح لبدايات جديدة.
علي عبدالله صالح كان يقاتل وهو يدرك الموت، وانتصاره الملحمي بكونه أشرع للناس باباً ماجداً يمتد إلى الساحل الغربي، وهنا يتبادر السؤال الكبير للناس:
لماذا أطلق صالح رصاصته الأخيرة؟
وجد صالح نفسه وحيداً في صنعاء، يحاول وحزبه التماهي مع الحدث، ربما الجماعة هذه ستتروض وتصير نوعاً من أنواع الدولة ولسوف تمتزج وتكون فاعلاً أساسياً في حفظ البلاد الآيلة للسقوط، ووجد نفسه مداناً من الجميع وهو البريء من كل إدانة.
ولقد أراد كمصلح من كبار الحكماء الذين عرفتهم البلاد وكشريك سياسي ترويضهم، وهذه فكرة جميلة لو أنهم قبلوا بها، وعملوا لأجلها، كانت ستنجيهم، وربما ستنتهي الحرب، طالما يجنح الكهنوت لشكل الدولة.
خاب ظن صالح، وظن حزبه، وبقي وحده بفوهة الخطر، والجماعة تتداعى للتأليب ضده، وليس هذا مناط الأمر، بل الجلل في أنهم وبظل الشراكة أرادوا مسخ الهوية اليمنية لصالح الإيرانية، يبتدعون تلك الاحتفالات الخمينية، وصالح رفضها تمام الرفض، ذهبوا لتغيير منهج التربية، وهذه كانت حاسمة لدى صالح الذي رفض، ولم يثنهم رفضه وعدم قبوله ب"خومنة" البلد بل ذهبوا لإقرار الخمس في البرلمان ولم يقبل صالح، وأبى حزبه أن يكون شريكاً في هذا التجريف المريع.
كان بقاء صالح في صنعاء حفظاً للملامح اليمنية، إما وينجح في اليمننة، لهذه الجماعة، أو يعلن الرفض ولو كلفه ذلك دمه، وقد عبر عن رفضه مرات كثيرة، أدى هذا الرفض لقرار قاطع يتخذه صالح وهو المقاومة والقتال، وقرار صالح من أعظم قرارات زعماء التاريخ وأن تقاتل بقلة قليلة كثافة الظلام، وفي خلدي أن صالح يدرك أن لا قبل وطاقة له بهم، وزن الأمر ووازنه، الموت هو النصر الوحيد، بالموت سينتصر، وأطلق رصاصته بوجه الطغاة والبغاة ليموت، موته مشروع جمهوري سوف يستمد قوته من شجاعته، وهذا الذي حدث لصالح.
رغم حزننا والألم الذي مزق الأوردة، لكن موته كان آخر الأمجاد وآخر الهدايا التي قدمها صالح لشعبه.
لم يلق بصالح أن يفر ولا يليق به أن يعتقل، أو يحجر في بيته، وشعبيته الفارقة يجب أن تفتح مسارها المختلف في صلب المعركة الوطنية والدم المنثال من أوردته السبيل الوحيد لحدوث ذلك.
ولنسمي الذي حدث بأي مسمى، شجاعة، حنكة، وضربة حظ، أي شيء، فالشيء الماثل أمامنا هو الحقيقة الواحدة، ولو بقي صالح ربما يموت على فراشه بعد عام وصمت، وستذوب شعبية الرجل الخرافية لصالح الكهنوت.
وهذه كارثة، ومن أقدارنا الجميلة أن ذلك لم يحدث، شاءت الأقدار، بل ترتبت أقدار السماء ليمت برصاصة الكهنة القادمين من أسحق العصور وأشرعت لشعبيته درب النضال.. وهذا أجمل الذي حدث.
مات خالد بن الوليد على فراشه وهو يبكي، فلا أشرف من الموت بميدان الوغى، وكان حظنا بصالح هو الأصلح له ولنا ولهذه المعركة.
وفي أحايين كثيرة أجد من يتحدث ويتأمل ويمني نفسه من حبه لصالح أن الزعيم لا زال حياً وكي أقطع عنه الأمنيات أقول له: لو علي عبدالله صالح حي يرزق ولم يمت، فسوف أكرهه، فهذا يعني سوء الخاتمة، وخاتمته من الخواتيم الفريدة عبر التاريخ، بأكمله.
والآن، علينا أن ندرك لماذا أطلق صالح رصاصته الأخيرة؟
أطلقها ليكشف الجوهر اللعين للكهنوت، كمن يقول أنا عجزت عن إيجاد أي رابط يمني معهم، أو مؤسسي، وعجزت عن استحضار الديمقراطية والحكم المؤسسي في أرواحهم، وهذه رصاصتي الأخيرة تعلن لكم أن الرهان على هذه الجماعة رهان خاسر وسوف أموت وقد شرعت لكم طريقاً ملحمياً تسيرون فيه إلى الانتصار لليمن.
والحقيقة الكاملة والمختصرة: حافظ علي عبدالله صالح على مكتسبات الجمهورية من صنعاء في صراع وجها لوجه مع الكهنوت ولم يهرب واستطاع إعاقتهم خلال سنوات من تمرير كل مشاريعهم، كانت معركته أشد، وعندما عجز أطلق الرصاص وارتقى شهيدا إلى السماء وأنجب ملحمة يكتبها الحراس في الساحل الغربي.
عظمة.. ولكن الرصاصة الأخيرة تلك تجذرت وتعملقت وأصبحت جهة ووجهات وجبهة وجبهات وما زالت وصايا صالح تحشو بنادق الرجال وهم يثقبون جمجمة الكهنوت.
رصاصة صالح الأخيرة توالدت في الساحل الغربي، وقد نجح في إيجاد المعنى والمبنى للنضال، بدمه أشعل الجذوة وبدمه ننتصر وإلى الأبد.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك