محمد العلائي
الإمامة والخلافة في فكر "الغزالي".. "فضائح الباطنية"
خصَّصَ أبو حامد الغزالي، في كتابه "فضائح الباطنية"، فصلاً للدفاع عن شرعية الدولة العباسية في زمنه.
جاء ذلك في سياق الرد على مقالات الفرق الشيعية الباطنية، وبالتحديد الإسماعيليين الفاطميين الذين شكلوا تهديداً مزمناً للخلافة في بغداد.
تضمنتْ الاستدلالات التي احتج بها هذا الرجل -الشافعي مذهباً الأشعري عقيدةً- لترجيح موقفه المُسانِد للخليفة المستظهر بالله، أن العباسيين كانت لهم "الشوكة"، أن هذه "الشوكة" إلى جانب ذلك كانت مدعومة من "أكثرية" المسلمين.
مع أن دولة بني العباس في عصر الغزالي لم تكن في أحسن أحوالها، إذ كانت قد انتقلت للتو من هيمنة السلاطين البويهيين الإيرانيين "الشيعة" إلى هيمنة السلاطين السلاجقة الأتراك "السُنّة" الذين كان يُكنّ لهم الغزالي ولاء خاصا بوصفهم "سلاطين" و"ملوك"، إلى جانب ولائه للخليفة العباسي بوصفه "إمام" المسلمين وعنوان وحدتهم.
اشتهر الغزالي (توفي 505 هجرية، 1111م) بكونه الفيلسوف المسلم الذي استعان بالفلسفة للهجوم على الفلسفة، والفقيه الذي درس المنطق واعتبره مقدمة للعلوم كلها، والمثقف العرفاني متعدد المشارب والذي تلتقي فيه تأثيرات يونانية وفارسية وهرمسية.
بخصوص الإمامة، وهو ما يهمنا الآن، كتب الغزالي قائلاً: "وإذا كانت الإمامة تقوم بالشوكة، وإنما تقوى الشوكة بالمظاهرة والمناصرة والكثرة في الأتباع والأشياع وتناصر أهل الاتفاق والاجتماع، فهذا أقوى مسلك من مسالك الترجيح"، (فضائح الباطنية، ص173).
نفهم من هذا أن "الشوكة" -والتي تعني القوة والبأس وما في حُكمهما- وحدها لا تكفي لإثبات شرعية الإمام وتثبيت سلطانه، وإنما يجب أن يحصل "صاحب الشوكة" على رضا ومشايعة الأكثرية من المحكومين. بمعنى أن يحصل على "الولاء" الطوعي، وهو لن يحصل على شيء كهذا إلا بحُسن الرئاسة والسياسة.
اللفظ "إمام" يأتي هنا بمعنى الحاكم، صاحب الولاية العامة [الدولة].
يبدو من النصّ كما لو أن الغزالي يقترب خطوة أُولى نحو المنطق الديمقراطي بمعناه البسيط الذي تتحقق فيه الشرعية بأغلبية الأصوات.
نظرياً، هذا صحيح إلى حدٍّ ما.
وليس في الأمر ما يستدعي الاستغراب، إذا ما علمنا أن أغلبية أهل السنة -من الناحية الاسمية- يقولون بالاختيار والشورى كشرط أساسي للإمامة الصحيحة، بغض النظر عما يقصدونه عملياً بهذا الشرط، مع التأكيد على أن قضية الإمامة والخلافة لديهم تنتمي إلى فقه المصالح لا إلى العقائد.
أما بالنسبة إلى الشيعة، فالإمامة تنتمي إلى العقائد، وهم يقولون أنها منعقدة بالنص في "علي" وذريته، والإمام العلوي المنصوص عليه عندهم "هو مُحق سواءً بُويع أو لم يبايع، قلّ مبايعوه أو كثروا".
وحتى عند الزيدية، ليس الاختيار شرطاً لصحّة الإمامة على الإطلاق.
بيد أن فقهاء أهل السنة، رغم قولهم بالاختيار والإجماع، كانوا يعلمون في الحقيقةً أنه من المتعذَّر إخضاع (الإمامة/ الخلافة) لهذا الاختبار العسير، لأن ذلك سيفضي إلى الحُكم ببطلانها بناءً على انتفاء شرط الإجماع.
ولهذا كان يكفيهم أن يروا استتباب الأمر في الأقاليم لحُكم الخليفة "المتغلِّب"، واتفاق عقيدته مع المنظور السُني العام للإسلام، كي تحظى خلافته بالاعتراف الشرعي، ويُندَب المسلمون لطاعته.
لتتضح مقالة الغزالي في السياسة أكثر، يجب قراءة هذه الفقرة: "فإن شرط ابتداء الانعقاد (انعقاد الإمامة) قيام الشوكة وانصراف القلوب إلى المشايعة ومطابقة البواطن والظواهر على المبايعة، فإن المقصود الذي طلبنا له الإمام جمع شتات الآراء في مُصطدَم تعارُض الأهواء، ولا تتفق الإرادات المتناقضة والشهوات المتباينة المتنافرة على متابعة رأي واحد إلا إذا ظهرت شوكته وعظمت نجدته وترسخت في النفوس رهبته ومهابته.
ومدار جميع ذلك على الشوكة، ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من معتبري كل زمان"، (فضائح الباطنية، ص177).
على أن "الموافَقة" و"المشايَعة" التي يشدِّد الغزالي على أهميتها القصوى لإسناد "صاحب الشوكة" وتثبيت إمامته، إنما هي أمور تُدرَك بالملاحظة الكُلية والحدس لا بالإحصاء والعدد.
أي أن بُرهانها في ذلك الوقت لا يتعدى الشعور بالانتظام الظاهر للأوضاع في الأقطار الداخلة في نطاق سلطة الخليفة.
فكان وقوع الانتظام بمثابة دليل حاسم على كفاءة السياسة وشرعية الدولة بنموذجها الإمبراطوري الإسلامي.
هناك إشارة من الغزالي نفسه تفيد الاعتراف باستحالة تنظيم ما نسميها اليوم "عملية انتخابية" شاملة لإثبات حقيقة الإجماع، فإن ذلك كما يقول الغزالي "غير ممكن ولا مقدور لأحد من الأئمة، ولا فُرض ذلك أيضاً في الأعصار الخالية للأئمة الماضين.
وباطلٌ أن يُعتبر إجماع أهل الحل والعقد في جميع أقطار الأرض لأن ذلك مما يمتنع أو يتعذر تعذراً يفتقر فيه إلى انتظار مدة عساها تزيد على عُمر الإمام، فتبقى الأمور في مدة الانتظار مهملة"، (فضائح الباطنية، ص 175).
لقد كان الغزالي يدرك صعوبة تحويل مبدأ الإجماع والاختيار -رغم إيمانه به- إلى ممارسة عملية حقيقية في زمنه.
وقد لجأ غير مرة إلى الاستشهاد بالوقائع لسّد النقص الواضح الذي يعتري حججه العقلية المجردة.
باختصار؛ من الناحية النظرية، يمكن لأهل السنّة أن يوافقوك على أن الإمامة الصحيحة مشروطة بحصول الإجماع والاختيار من قبل "أهل الحل والعقد" على الأقل وفقاً لما جرت عليه الأمور في بيعة أبوبكر الصديق، لكنهم سيشفعون هذه الموافقة بتذكيرك أن الضرورة العملية تقتضي منهم، في أغلب الأحيان، إهمال هذا الشرط والتصرف بإيجابية حيال الأمر الواقع.
لننظر ما يقوله الغزالي أيضاً في موضع آخر كما لو كان ينطق بلسان أهل السُنّة: "إننا نراعي الصفات والشروط في السلاطين تشوّفاً إلى مزايا المصالح، ولو قضينا ببطلان الولايات الآن لبطلت المصالح رأساً، فكيف يُفوَّت رأس المال في طلب الربح".
عبدالله العروي اعتَبَر كلام الغزالي تعليلاً واضحاً "لضرورة التكيف مع الواقع".
وبما أن "الطبيعة الإنسانية لا تتحمل النظام الأسمى، أي الخلافة"، فقد كان "الوعي بهذه النقطة هو الذي دفع الفقهاء إلى إهمال مسألة الخلافة"، (العروي، مفهوم الدولة، ص 135).
العروي يقصد إهمال فقهاء أهل السنة لـ الخلافة كـ طوبى ومثال متخيل.
وكان عليه إضافة أن هذا الموقف المتهاون هو الذي أطلق العنان للتكيف العقلاني في كل عصر مع الصيغ الممكنة التي يبتكرها الإنسان للاجتماع السياسي بما يحفظ الحقوق والمصالح العامة ويصون كرامة الأفراد.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك