محمد العلائي
لمحة عن المُلك والسياسة في اليمن القديم
في دراسته الممتازة "أصول الحكم عند العرب الجنوبيين"، يرى المؤرخ العراقي جواد علي أن "قَيْل"- (والجمع أقيال) من الألقاب التي شاعت على الأرجح في مرحلة ما من تاريخ اليمن القديم بين طبقة من الحكام والنافذين أدنى رتبة من طبقة "الملوك"، وكان شيوعها على امتداد العربية الجنوبية مظهراً فاقعاً من مظاهر التجزؤ السياسي والفوضى.
هناك شيء آخر يمكن استخلاصه من الدراسة وهو أنه حتى لقب "ملك" في اليمن القديم لم يكن يقترن دائماً بوضع سياسي توحيدي يسود فيه الرخاء والاستقرار، وإنما كان يُطلق على أكثر من شخص في نفس الوقت، بل وفي البيت الواحد، وهو ما يجرده من دلالته السائدة التي من المفترض أنها تشير إلى رتبة سياسية عليا ينفرد بها شخص واحد في زمن واحد وفي مكان واحد، ثم تنتقل هذه الرتبة بالوراثة إلى أعقابه من نفس أرومته.
قبل جواد علي بزمن طويل، نقرأ عند إمام المؤرخين محمد بن جرير الطبري جملة ملاحظات ونتائج مدهشة عن خصائص وسمات عامة لـ المُلك والسياسة في اليمن قبل الاسلام.
كان في اليمن ملوك لهم مُلك، هكذا يقول الطبري (توفي 310 هجرية)، لكنه يعيب فيهم أن مُلكهم غير متصل، بمعنى أنه لا يدوم طويلاً بترتيب وتعاقب ونظام في سلالة ملكية واحدة.
لننقل كلامه بلفظه: "وقد كان لليمن ملوك لهم مُلْك، غير أنه كان غَير متصل، وإنما كان يكون منهم الواحد بعد الواحد، وبين الأول والآخر فترات طويلة، لا يقِف على مبلغها العلماء".
والمعنى: هناك مُلك، أي هناك دولة، لكنه غير متصل زمنياً، سريع الانقطاع والزوال والتبدل.
لكن ليس هذا عيبه الوحيد، وإنما أيضاً هو مُلك غير متصل مكانياً، بل مجزأ على غير نظام: "لم يكن لملكهم نظام وأن الرئيس منهم إنما كان ملكا على مخلافه ومحجره لا يجاوز ذلك فإن نزع منهم نازع أو نبغ منهم نابغ فتجاوز ذلك وإن بعدت مسافة سيره من مخلافه فإنما ذلك منه عن غير ملك له موطد ولا لآبائه ولا لأبنائه ولكن كالذي يكون من بعض من يشرد من المتلصصة فيغير على الناحية بعد الناحية باستغفاله أهلها فإذا قصده الطلب لم يكن له ثبات".
يعيد الطبري إيجاز ما كان عليه أمر ملوك اليمن على هذا النحو: "كان الواحد منهم بعد الواحد يخرج عن مخلافه ومحجره أحيانا فيصيب مما مر به ثم يتشمر عند خوف الطلب راجعا إلى موضعه ومخلافه من غير أن يدين له أحد من غير أهل مخلافه بالطاعة أو يؤدى إليه خرجا".
ثم يستثني الطبري يمانيين نسَباً -كالمناذرة من آل نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم- تميزوا باتصال المُلك فيهم زمناً ومكاناً وذلك خلافاً للمعهود مما ذكره في ملوك اليمن.
إلا أن إقليم اليمن -جنوب الجزيرة- لم يكن هو قاعدة مُلك المناذرة اللخميين وإنما الحيرة في العراق هي قاعدته. ولم يكن مُلكاً مستقلاً وإنما كانوا عمالاً لملوك فارس.
وهكذا، وبعد حديثه عن عدم اتصال المُلك لملوك اليمن في اليمن زماناً ومكاناً، وبعد أن نفى عن مُلكهم النظام، يضيف الطبري: "حتى كان عمرو بن عدي -من آل نصر بن ربيعة- الذي ذكرنا أمره وهو ابن أخت جذيمة الذي اقتصصنا خبره فإنه اتصل له ولعقبه ولأسبابه الملك على ما كان بنواحي العراق وبادية الحجاز من العرب باستعمال ملوك فارس إياهم على ذلك واستكفائهم أمر من وليهم من العرب إلى أن قتل ابرويز بن هرمز النعمان بن المنذر ونقل ما كانت ملوك فارس يجعلونه إليهم إلى غيرهم".
هل هذه سمة كان يختص بها اليمن دوناً عن غيره؟
أم يصح قول الشيء نفسه عن جزيرة العرب بكاملها، إلى قبل الدولة السعودية؟
أقصد عدم اتصال المُلك وتفرق السلطة كل رئيس على مخلافه ومحجره.
أميل إلى الظن بأن امتناع اتصال المُلك وانتظامه زماناً ومكاناً كان سمةً غالبة على الحياة السياسية لجزيرة العرب قبل التحولات الجوهرية الحديثة في السعودية والخليج، وليست سمة خاصة باليمن فحسب.
يُروى أن النعمان بن المنذر وقف أمام كسرى فتحدث عن طبائع العرب مشيراً إلى نزوعهم إلى التفرُّق وامتناعهم عن الالتفاف حول ملك واحد يجمعهم، إلى أن قال: "وإنما يكون في المملكة العظيمة أهلُ بيتٍ واحد، يُعرَف فضْلُهم على سائر غيرهم، فيُلْقون إليهم أمورَهم، وينقادون لهم بأزِمَّتِهم.
وأما العربُ فإنَّ ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين".
العرب في كلام النعمان هم عرب الجزيرة على وجه التحديد.
وقد كان الرجل يصف الحال الغالب عليهم قبل الإسلام.
ولو تتبّعنا الأخبار في العصر الإسلامي وصولاً إلى القرن الماضي، لوجدنا أن الحال لم يختلف كثيراً من حيث عدم انتظام واتصال الدول والولايات على جزيرة العرب.
كان لـ ابن خلدون وجهة نظر عامة مثيرة للجدل يصف فيها العرب بالأمة الوحشية الغالب عليها البدواة والاضطراب.
وأشار في المقدمة إلى الحالة السياسية في اليمن عدة مرات، في واحدة منها أكد على ما ذهب إليه الطبري من أن ملوك اليمن لم يكن لهم نظام، واقتبس بعض كلام الطبري بنصّه.
وفي إشارة ثانية ينسُب ابن خلدون إلى اليمن الفوضى والخراب، فهو بعد أن يقول بأن "الفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران"، يضيف مباشرةً بأن "اليمن قرارهم خراب إلّا قليلا من الأمصار وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الّذي كان للفرس أجمع والشّام لهذا العهد كذلك".
والسؤال هو: لماذا هنا ميّز اليمن دوناً عن باقي مناطق الجزيرة العربية؟
فهل كانت مجتمعات شمال وشرق الجزيرة في عصر ابن خلدون مستقرة سياسياً كما هي اليوم بالمقارنة مع حال اليمن؟
لا نظن ذلك.
وهل ملاحظة ابن خلدون تنحصر على وضع اليمن في ذلك الزمن فقط أم تتعداه إلى الماضي والمستقبل؟
لا ندري.
مع التنبيه مرة أخرى إلى أن الأحكام والتعميمات السلبية -المستفزة رغم كل شيء- التي أطلقها ابن خلدون على العرب وأنهم "أمة وحشية"، واياً يكن ما يعنيه بلفظ "عرب"، تلك الأحكام والتعميمات سقطت في العصر الحديث بالطفرة النفطية في شمال وشرق الجزيرة العربية.
فالثروة متغير جوهري أدَّتْ من حيث النتيجة إلى التغلب على العوامل الطبيعية القاسية التي جعلت من سكان الجزيرة ما كانوا عليه في مختلف عصور التاريخ من "وحشية" و"بداوة" حسب التعبيرات الخلدونية.
لا شك أن الإسلام في أول عهده كان متغيراً مهماً، عدا أن أثره التوحيدي، على صعيد الاجتماع والسياسة في جزيرة العرب تحديداً، لم يدم طويلاً، فاتخذت الفرقة ونزعات الانقسام أشكالاً متنوعة من داخل الإسلام نفسه.
ونحن لو نظرنا اليوم بالعين التي كان ابن خلدون سينظر بها إلى الأحوال السياسية والاجتماعية القائمة في شمال وشرق جزيرة العرب لما خرجنا بغير الإعجاب والذهول، فلا شيء مما نراه هناك يستوجب من ابن خلدون الإنكار، بل هو على العكس يستوجب الثناء والمدح، ودليلنا على ذلك ما نعرفه من مواقفه وآرائه في الحضارة والمُلك والاجتماع.
قد نجد في فكر وآراء الفارابي أو ابن سينا أو ابن رشد شيئاً صالحاً للاستخدام في النكير على هذا الشكل من السياسة أو ذاك مما هو حاصل في "دول الخليج"، رغم إلحاح الفارابي على أن السعادة غاية كل سياسة، أقول "قد نجد" ولستُ على يقين من ذلك، أما لو نظرنا فقط بمنظور فكر ابن خلدون وأخلاقياته في السياسة والحكم فلن نشعر تجاه نموذج النهضة الخليجي بغير الرضا والإجلال.