د. صادق القاضي
اليمن.. إلى أي مدى كانت ضحية للحماقات والترندات الرقمية؟!
يرعبني هذا الاستنفار الرقمي الحار الغاضب الهائج الشرس المتنمر.. الذي يبديه اليمنيون، أحياناً. بشكل جماعي عارم، في مواقع التواصل الاجتماعي، تجاه كل من قال شيئا يبدو أنه ينال من قيمة اليمن، وتاريخها، ورموزها الفنية والثقافية، ومقدساتها الوطنية.!
نادراً ما تحمل كرنفالات الردح والقدح هذه قيمة لها علاقة بالعقل أو بعاطفة وطنية شعبية واعية ومتقدة، وعادة ما تسفر عن ضحايا بريئة، وبغض النظر عن ما قالته، يتم استهداف شخوصها بالويل والثبور وعظائم الأمور، والافتراء عليها، وسحق سمعتها حتى العظم.!
نحن. هنا. أمام تسونامي غوغائي جارف بلا وعي ولا حواس، أمام "فيالق من الحمقى والبلهاء" حسب تعبير الروائي والفيلسوف الإيطالي الشهير "امبيرتو إيكو"، في معرض حديثه عن الغوغائية الرقمية السائدة، قائلا: إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك: "تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء".
هو يتحدث عن الظاهرة في الغرب. بيد أن الظاهرة في الشرق أكثر بروزا وضحالة، ولها ضرر كبير ومباشر على الآخرين والمجتمع، وبدلا من السكارى الثرثارين، هناك عناصر لا تقل ثرثرة وغيبوبة: دراويش، وناشطين، من النوعين، أتباع جماعات دينية أو أحزاب يسارية تعتنق جميعها أيديولوجيات مثالية ثورية شمولية.
تصبح الظاهرة أكثر إشكالية، على الصعيد الجمعي، حين تشترك هذه الحشود في ترندات وهشتاجات جماعية تغرق بها الفضاء الرقمي، كما يحدث في المظاهرات الحماسية الحاشدة، في الشوارع والساحات والميادين العامة، وهي تردد شعارات سياسية موحدة غاضبة.
من سمات مثل هذه التظاهرات -حسب علم النفس الجماهيري- أنها تغرق المشتركين فيها، في هستيريا جماعية لا شعورية، على حساب الاتزان والمنطق الفردي، يمكن للأفراد في هذه التظاهرات أن يرتكبوا في ظل الحماس والاستلاب الجمعي، ما لا يقبلون بفعله في حالاتهم الفردية العادية.
لا يعني هذا أن هذه الجماهير الرقمية، تفعل كل هذا بإرادتها، وبما تمليه عليها طبيعتها، رغم أن هذا يحدث، لكن في الأغلب هناك وراء الكواليس أراجوزات بارعة في إدارة الأزمات، وصناعة الرأي العام، وهي التي تمسك بخيوط اللعبة، وتوجه هذه الأرتال والجحافل المستلبة من قضية إلى أخرى منذ بداية الربيع العربي.
كلنا نذكر أن هذه الحشود الثورية في اليمن، خرجت حينها على غرار ما حدث في تونس ومصر، ورفعت في البداية، نفس الشعارات والمطالب، في الساحات والفضاءات الرقمية، على رأسها الشعار الأصلي الكبير: "الشعب يريد إسقاط النظام".
ضمن هذا الشعار الجوهري العام، كانت القيادات الثورجية تسمى كل جمعة باسم خاص، يصبح ترند الأسبوع القادم، ولم يكن للثوار أنفسهم دور في صناعة هذه الأسماء والترندات، وإن توهموا أن لهم دورا في صناعتها.
ذات ليلة جمعة اتفقت القيادات على تسمية الجمعة "جمعة الرئيس الحمدي", ورفعوا صورته على اللافتات وصفحات المواقع، ثم. في الصباح اكتشف الأتباع أنه تم إنزال صور الحمدي ورفع صور الشيخ عبد الله الأحمر، وتسمية الجمعة باسمه.!
لم يعترض أحد، وعفويا حدَّث الأتباع معلوماتهم حسب التوجيهات والتعميمات الجديدة. ولأن الأوصياء كانوا جزءا من النظام القديم، تغير مع الزمن، حتى الشعار العام للثورة ضد النظام، وانتهى به الأمر. إلى: "الشعب يريد إسقاط الرئيس".!
هكذا ضاعت الثورة، وهكذا تم محو قيمها الشبابية المدنية السلمية الحديثة.. مادةً مادةً، كما حدث لبنود الثورة الاشتراكية التي قادتها الخنازير في رواية مزرعة الحيوان لجورج اوريول.
وكما لم تكن حيوانات تلك المزرعة الخيالية، تدري ماذا يفعل قادتها الخنازيز خلف الحظيرة، لم يكن ثوار فبراير يدرون ماذا يفعل قادتهم خلف الكواليس، ولا يهتمون إلى أين ستلقي رحلها أم قشعم.
لم يكن الجميع. رغم إشارات ونصائح العقلاء يومها. يدرون أن المخاطر الحقيقية المحدقة باليمن ككل: الشعب والنظام، والدولة والثورة، تكمن داخل الثورة نفسها، بين صفوف الثوار، وفي الخيام الثورية المنصوبة في الميادين والساحات العامة!
حاول شركاء النظام القديم دفن بعضهم، وجاء الحوثي ودفن الجميع، لكن حتى في خضم المعركة الوطنية لاستعادة صنعاء، حاول بعضهم تصفية الحسابات مع شركاء القضية والسلاح، وتصدرت الأزمة إلى الفضاء الرقمي، على شكل ترندات تدعو لتحرير المحرر، والسيطرة على عدن. أو المخا.!
بل حتى بعد جمع الأطراف ضمن بنية مجلس قيادي واحد. ما تزال الصراعات والترندات على أشدها داخل فصائل الصف الجمهوري، يتعلق أبرزها بالهوية والوطن والوحدة اليمنية.
أليست هذه الحشود الرقمية الغيورة على الوطن، والمتنمرة على كل من ينال من الوحدة اليمنية.. هي نفسها التي تقدس الهوامير التي ضيعت الوطن، والوحدة السياسية والوطنية.؟!
والمشكلة أن هذه "الثورجية" التي أخرجت اليمن من النور إلى الظلمات، ومن الوحدة إلى الشتات، ومن النظام إلى الفوضى، ومن كنف الدولة إلى أوكار العصابات.. ما زالت حية وبكامل حماسها، وتخبطها، وثقتها بضلالها القديم.!
ما زالت في ذروة تخبطها العشوائي الأول:
أعادت الشمال إلى عهد الإمامة، ونسفت كل المكاسب الوطنية والجمهورية التي تحققت منذ ثورة 26 سبتمبر، ومع ذلك. تحتفل مثلنا بحرارة بذكرى ثورة سبتمبر المجيدة.
أعادت الجنوب. إلى عهد السلطنات المتشرذمة، قبل ثورة 67 المجيدة، ونسفت أسس الوحدة السياسية والوطنية، ومع ذلك تحتفل بذكرى الوحدة اليمنية، وتشتم القيادات والرموز التي حققت هذه الوحدة.!
لم نتعلم شيئا من كل الكوارث السابقة، ولا يبدو أننا سنتعلم، ولا أحد يدري إلى أين سيصل بنا هذا السقوط الأعمى في هذه الهاوية التي تبدو بلا قرار.!