عبدالسلام القيسي
فيصل الصوفي.. الكبير صاحب القلم المختلف
أتيت الساحل الغربي شاباً لا أعرف أحدا، ويجهلونني.
تدركون معنى الغربة، والبدء من مكان جديد وبرد الأيام وشعواء الحياة المجهولة كيف تكون لولا أن يقيض الله لك البعض، أحدهم فيصل الصوفي.
لكن هؤلاء البعض الذين عرفتهم ووقفوا بجانبي كلهم من بقية الزمن، النبيل، الجميل، الفسحة الأولى للكلمة اليمانية.
أحمد الرمعي وقد فجعنا بموته قبل أعوام، فيصل الصوفي، وقد مات اليوم، وليحفظ الله بقية روحي وهما الأستاذان الكبيران نبيل الصوفي وأمين الوائلي، بقية حياتي.
كان فيصل الصوفي نعم الوالد وهو الأستاذ، والرجل الذي يشجعك وأول تشجيعه لي أنني كتبت مادة عن الشهداء، شهيدان من شهداء حراس الجمهورية، اندهش فيصل وقال لي: كان يجب أن تكبر في زمن الصحافة الورقية قبل ثلاثين سنة وكنت ستصير اسماً كبيراً تنافس الكبار.
وكنت أخجل من إطراء فيصل الصوفي فهذا الإطراء يخجلني وبقي فيصل يعرض نصي على كل الناس، والمديرين.
ويمر بينهم ويقول: اكتبوا مثل عبدالسلام القيسي! وأنا الغريب الشارد الوحيد في مكان يجهلني، كنت أرى كلماته تلك حقناً سحرية تشحنني بالصمود والإبداع رغم خجلي من الإطراء كما قلت.
ووحده كان يقول لي: أنا شيبة يا ولدي وما عد أقرأ كتابات طويلة إلا كتاباتك أنت، داوم واكتب يا بني.
ذات مرة كنا نتغدى معاً وقادنا الحديث إلى أمي، أخبرته أن أمي سرورية، من بيت السروري، فصارت لزمة لديه يناديني بها كل مرة: أنا خالك.
خالك يا ولدي.. يأمرني ويضحك.. وأنا أحترم أوامره فهو أستاذي وهو خالي، وهو فيصل الصوفي، الكبير صاحب القلم المختلف.
أنا هنا لا أكتب عن قلم فيصل الصوفي، مثلي لا يكتب عن مثله، الصوفي قلمه جبار ومؤدلج وباحث كبير، وأنت تقرأ له تحيط بكل شيء.
أنا أكتب عن سنوات قضيتها معه وكيف حاول أن يعلمني السباحة ولاحقني وطردني من البحر، ونحن نضحك بساحل مبتسم.
أنا لا أعرف أسبح، نهضت معه السادسة صباحا، ذهبنا البحر، حاول جاهداً ولنصف ساعة أن يعلمني السباحة، بكل طريقة حاول، وكل غطسة، وهو بجانبي يعلمني كيف أتنفس، كيف أفعل، وأتحرك.
أدرك فيصل فشلي، ولا فائدة من اتقاني السباحة، قلب وجهه بوجهي، وطاردني من البحر إلى الشط زعلاً من غبائي.
بررت له وهو يسوق إلى البيت: أنا أكره البحر يا أستاذ ولا أستطيع التصالح مع شيء أكرهه، ولو ظللت تعلمني السباحة إلى الأبد.
ولأجادله رددت عليه قولي الأثير: بحارنا الفضاءات المعلقة بين الجبل، والجبل.
أي: لا أعترف بالبحر.. أحاول الانتصار لهزيمتي أمامه.
وأجمل صفاته: الإنسان.
ونحن في المركز الإعلامي تأتي وجباتنا إلى المركز، في غالب الأحيان نأتي ولا غداء، لا عشاء، ننهض أحيانا لا صبوح، أين الأكل؟
يصمت فيصل الصوفي، لماذا فيصل الصوفي يصمت؟
يكون قد أخذ الأكل كله ووزعه على الفقراء في الحارة، ولا يريد أن يحدث أحدا عن فعله النبيل، والإنساني.
نبيل هذا الرجل، وفاضل، وكبير، ولا يسعني الحديث عنه أكثر فمن حزني عليه أعزي نفسي بأولاده الثلاثة.
أعرف نادر الصوفي، وأحبه، ومن أقرب الناس إلي هو ولده الضابط شهدي الصوفي قائد سرية في حيس، مقاتل في الجبهة، وولده حافظ فتى لا زال بمقتبل عمره، أعزيك يا حافظ، أعزي القائد، القيادة كلها، والزملاء في الإعلام وكل شجعان الساحل الغربي.
عندما عاد فيصل الصوفي من الهند بعد زرعه الكبد من كبد ولده شهدي، تعشيت ببيته في رمضان، وكان اللقاء الأخير معه في رمضان، قد تعافى فيصل، هكذا اعتقدت، ولا ندري أن عقب العافية موت.
عشت مع فيصل الصوفي سنوات من عمري، لمست فيه النضال والتضحية، ومات فيصل الصوفي ولم نحرر صنعاء بعد، وسأضيفه ضمن ثأري من الكهنة، الكهنة الذين قاتلهم فيصل إلى آخر حرف.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك