د. صادق القاضي
المعضلة اليمنية بين الداء والأعراض.!
في عام 1946م، تنبأ المفكر العربي الكبير. "عبد الله القصيمي" فيما يتعلق باليمن، قائلاً ما معناه: هذا الشعب يمتلك "عشرة ملايين عين، وعشرة ملايين أذن"، ولكنه لا يرى، ولا يسمع.. هذا الشعب قد يغير نظامه السياسي، ولكن ذلك لن يغير شيئا في واقعه كأحد أكثر شعوب العالم فقرا وتخلفاً وبدائية.
اليوم، وبعد حوالي "80" عاما.. أصبح للشعب اليمني. "ستين مليون عين، وستين مليون أذن"، لكنه ما زال أعمى أصم. لا يرى ولا يسمع. غيّر نظامه السياسي مرارا وتكرارا. لكن واقعه الحضاري لم يتغير بالتبعية، وما يزال كما كان. من أكثر شعوب العالم فقرا وتخلفا وبدائية.!
لم يكن "القصيمي" نبيا ولا عرافا، بقدر ما كان يمتلك قدرات معرفية وعقلية وفكرية نوعية، تتجاوز الأعراض الظاهرية للداء، والتجليات الزمنية العابرة للمشكلة، إلى الجوهر والعمق.. وبيت الداء الكامن في قلب المنظومة الاجتماعية والثقافية والفكرية والعقائدية.. اليمنية العامة.
كانت الأمية الكتابية، والجهل المعرفي، والكهنوت الديني.. طوال العهد الإمامي البائد. تستلب عيون اليمنيين وأسماعهم وعقولهم، وتحول دون قيامهم بتشخيص مشكلاتهم الجوهرية هذه، ومن ثمّ المبادرة إلى مواجهتها ومكافحتها، واجتثاثها من الجذور.
لكن. حتى التجربة الجمهورية. منذ ثورة 26 سبتمبر 1962م. رغم حسناتها ومتغيراتها الجذرية الشاملة، وفتح بوابات التعليم وأدوات المعرفة، والمدنية للشعب، لم تنهِ المشكلة من الجذور، أطاحت بالكاهن الزيدي، لكنها لم تطح بالكهنوت الديني عموما، فظل في الهامش يتربص بالمدنية وينخر النظام الجمهوري.
انحسرت الأمية الكتابية لكن الجهل أصبح أرقى: جهل ثقافي حضاري يضم حتى معظم خريجي الجامعات، بجانب أمية فكرية وسياسية محبطة، وكنظائرها السالفة: تستلب عيون اليمنيين وأسماعهم وعقولهم، وتحول بينهم وبين المنطق والمنهجية في تشخيص مشكلاتهم الجوهرية.
معظم الأشخاص والفئات اليمنية تختزل المشكلة في أشخاص وفئات أخرى، وبنفس البساطة ترى أن الحل هو إزاحة ذلك الشخص، أو تلك الفئة، وتتوقع أن يفضي هذا الحل باليمن تلقائيا إلى الجنة الفاضلة، لكن هذه التصورات الثورية اليوتيوبية الانفعالية السطحية كانت في كل مرة تُفضي بالجميع إلى الجحيم.!
لم تفلح الاغتيالات والانقلابات والثورات، في حلحلة الوضع اليمني بشكل نوعي، كما فشلت جميع الأنظمة تقريبا، وكل الحكام، وكافة النخب والهيئات والمنظمات السياسية.. في بناء دولة مؤسسية قوية، ومجتمع مدني حديث في اليمن.!
صحيح. كانت هناك نجاحات أحيانا، لكنها كانت نجاحات جزئية محدودة، ولم تؤدِ إلى تراكم، بسبب كونها كانت شكلية، بينما تكمن المشكلة. كما سبق. في قلب المنظومة الثقافية السائدة، وعموما فقد تبلورت أرزن وأنبل المطالب السياسية اليمنية الحديثة بالتالي:
• دولة مؤسسية قوية.
• مجتمع مدني حديث.
• علاقة ديمقراطية تكاملية بين الدولة والمجتمع.
هذه المطالب والأهداف العصرية التقدمية الطموحة.. ليست جديدة، كانت مطروحة منذ منتصف القرن الماضي، لكنها لم تتحقق بسبب عدم جرأة القائمين عليها بمجابهة الجذور الراسخة العميقة للظواهر التي تحول دون تحقيقها، ففي كل مرحلة كان:
- الفساد المالي والإداري: يدمر الشروط الموضوعية، والبني التحتية للعدالة والتنمية في اليمن، ويبدد التراكمات المادية والمعنوية لدولة المساواة والنظام والقانون والمجتمع المدني الحديث.
- القبلية السياسية: تنخر الدولة من الداخل، وتحاربها من الخارج، وتفرض عليها شراكة غير سوية في السلطة والنفوذ وصناعة القرار، في ازدواجية أشبه بالفصام النفسي والشلل العصبي.
- الدين السياسي "الكهنوت": يدمر البنية الروحية للدين، والبنية العملية للسياسة، ويقحم الدولة والمجتمع في قضايا ونزاعات وأولويات لا علاقة لها بواقعها ولا الحاجات الموضوعية لمختلف جوانب التنمية المرتبطة بالعصر والحياة.
هذا الثالوث المرعب بمثابة ثقب أسود يمتص كل جهود وإمكانات التنمية والتغير، وهو الصخرة الصلبة التي تحطمت عليها كل المحاولات الجادة للنهضة والتحديث، وفيه تتشخص بموضوعية أسس المعضلة اليمنية العويصة المزمنة، التي تبدو سرمدية بلا نهاية.
يفترض هذا أن أي تشخيص للمشكلة اليمنية، بتجاهل عناصرها الجوهرية الموضوعية هذه، قد تنجح في أفضل حالاتها في معالجة الأعراض، لا أصول الأمراض، بما ينتج حلولا سطحية آنية سرعان ما تتكشف عن أعراض أكثر استفحالا وهمجية.