في عامي 2001 و2002 كنت أكتب بين وقت وآخر مقالات في صحيفة "الشرق الأوسط" باسم مستعار (أبو أحمد مصطفى) واحترم الصديق الأستاذ عبدالرحمن الراشد الاتفاق وأظنه لم يبح بشخصية الكاتب حتى الآن.
وكنت حينها أركز على أهمية التعليم والتنمية كسبيل أقل كلفة للانتصار على إسرائيل بدلاً من دفع الثمن البشري المروع الذي دفعه الفلسطينيون وحدهم في "الانتفاضة" الثانية.
وكانت وجهة نظري كما كتبت حينها "ماذا لو أن كل قطر عربي ركز على تعليم المواطنين وتحسين مستواهم الصحي والنفسي والثقافي! ألن يجعل ذلك المعركة مع إسرائيل معركة حضارية بدلاً من أن تكون معركة دينية أو عسكرية؟!
ثم إني أستغرب من علماء الدين الذين ضجوا المسامع عن الجهاد ضد إسرائيل، وانشغلوا في الصراع والمزايدة في فقه الانتحار، لكنهم لم يحضوا المواطنين على جهاد النفس، أما كان ذلك أجدى وأنفع لهذه الأمة التي حلت نكبتها في بداية القرن على أيدي عسكرييها، وتتجه الآن إلى النكبة الثانية على أيدي بعض فقهائها".
اليوم، أرى أن ما قلته ما زال صحيحاً ولكني أعترف أيضاً أنه كان مثالياً ومتأثراً بالإعلام الغربي وعدم إدراك لطبيعة الصراع الإسرائيلي مع العالم العربي عموماً ومع الفلسطينيين خصوصاً.
وأفهم اليوم أنها مسألة وجودية للإسرائيليين غير قابلة للنقاش أو التفاوض الذين يرون أنهم وحدهم أصحاب الحق من دون غيرهم في تقرير نتائجها على الأرض التي وفدوا إليها بموجب وعد بلفور الذي لا يزيد على أن يكون "هبة من لا يملك".
ورغم القبول العربي بإمكانية العيش المشترك والتعاون لأجل كل المنطقة فإن ذلك ما كان كافياً لمنح الفلسطينيين بصيص أمل يأتي من تل أبيب بقبول الصيغة التي لا تتعدى قبول قرارات مجلس الأمن الدولي.
وليس هذا بالأمر الجديد فقد صرح الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر في مقابلة تلفزيونية مع محطة دنماركية قبل وفاته بأشهر بأن السلام ممكن بعد عودة الأراضي التي احتلها جيش "الدفاع" الإسرائيلي في 1967، لكنه كان محقاً حين قال إن "الحديث عن توازن القوى يُقصد به أيضاً السيادة الكاملة لإسرائيل وحق مهاجمة الدول العربية".
لم تتغير السياسة الإسرائيلية منذ إنشاء الدولة قيد أنملة ولم تتبدل مقارباتها إلا من حيث طريقة العرض، ومن الواضح أنها تمكنت من إحداث اختراقات دبلوماسية مهمة بالتوصل إلى اتفاقات سلام مع دول عربية عدة لكن هذا لم يسمح لها بتحقيق الاقتراب الشعبي الذي تتوخاه، وهي تدرك أن هذا الأمر مرتبط بحل جذر الأزمة التي تسببت بها برفضها كل المبادرات العربية للسلام.
وكما قال الدكتور خالد الدخيل "إن إسرائيل لم تتقدم بأي مبادرة للسلام منذ نشأتها حتى اليوم، وهي دولة بلا حدود معروفة"، وهو أمر يتناقض مع مزاعمها في رغبتها بالسلام مع جيرانها رغم عجزها في تحقيق ذلك مع الفلسطينيين.
لا شك في أن إحدى معضلات التعامل مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة هي الاقتتال الداخلي الذي يشتت قدرات الفلسطينيين ويضعف من قدرتهم على الدخول في مفاوضات متكافئة، ولكن ليس من العدل تحميل كل فلسطيني مسؤولية فشل المنظمات التي استولت على حق تمثيله لكنها أساءت إلى القضية ذاتها وأفقدتها الكثير.
وفي ذات الوقت فإن الدول العربية لم تتمكن من التوصل إلى صيغة جماعية للتعامل مع القضية التي نشأنا على كونها قضية العرب المركزية ولا يجوز أخلاقياً ولا إنسانياً الحديث عن الانكفاء وتجاهل ما يحدث في الأراضي المحتلة وغزة تحت شعار "أنا رب إبلي" لأن الواضح أن هذه الحرب ليست إلا جزءاً من المسعى الأكبر وهو السيطرة على المنطقة كلها.
وما لم تدرك كل عاصمة عربية أنها هدف قادم محتمل وأن الرغبة الإسرائيلية ليست محصورة في إقامة سلام مستدام وإنما في التيقن من سيطرتها وحدها على المنطقة، فإن العالم العربي سيتحول إلى كيان بلا روح ولا طموح.
إن ما يحدث في غزة تحديداً أمام أنظارنا وأنظار العالم كله من تدمير وقتل جماعي وعقاب بلا سقف لا يمكن القبول به رداً على ما حدث في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وكما لا يمكن القول إن الانتقام من الهجوم كان السبب الوحيد لما تفعله إسرائيل، فالكل يعرف أن الدافع الحقيقي هو استكمال عملية خنق الفلسطينيين والبدء بعملية تهجير ثانية (ولن تكون الأخيرة) والقضاء على حلم الدولة الفلسطينية.
الحقيقة هي أن الصراع في المنطقة لا يمكن أن يتوقف عند حدود ما لم تقتنع إسرائيل بأنها يجب أن تكون دولة طبيعية بحدود معروفة وآن لقادتها التوقف عن التفكير بكيان "من النهر إلى البحر"، وما لم تفعل ذلك فإن السابع من أكتوبر لن يكون نهاية ردود الفعل الفلسطينية لمواجهة ومقاومة العنف والقتل والاغتيالات داخل وخارج حدودها.
كما أن الأحداث أثبتت أن الآلة العسكرية لا تصنع لها سلاماً.
* نقلا عن موقع "إندبندنت عربية"