محمد العلائي
هذه ليست دعوة إلى الاتضاع بل إلى التواضع
اليمن بوضعه الحالي مثال حي على الصورة التي كان يمكن أن تكون عليها شبه الجزيرة العربية بدون 1) الثروة النفطية 2) والدولة 3) والاستقرار.
التعلق الساذج بعزاءات الشقي المغرور لعبة لم تعد تستهويني. يجب أن نواجه الحقيقة عارية: ليس لدينا اليوم كيمنيين سبب مقنع نتعالى به على جيراننا الأثرياء.
هذه ليست دعوة إلى الاتضاع بقدر ما هي دعوة إلى التواضع الإيجابي الذي يقترن بالدراية والفهم، فالوعي بالحال شرط لتجاوزه.
قبل أكثر من نصف قرن، كان بيننا وبين جيراننا مساران تاريخيان مختلفان: هم خرجوا من عصور الظلام بفضل الثروة البترولية والسياسية التقليدية المحافظة، ونحن الفقراء في جنوب الجزيرة خرجنا من عصور الظلام بفضل الثورة (ثورتي سبتمبر وأكتوبر) التي أسفرت عن إعادة تنظيم نزعة المجتمع اليمني التحررية الأصيلة في دولتين اندمجتا معاً عام 1990م.
لم تكن نتائج المسارين، في اليمن والخليج، هي نفسها بالطبع، لتباين الأحوال والأقدار والأعباء التاريخبة وتباين السمات الطبيعية والاجتماعية والتفاوت في الكثافة الديمغرافية.
لكن على الأقل كنا وهم نسير نحو ذات الهدف من طريقين مختلفين، مدفوعين معاً بالرغبة في التزامن واللحاق بالعالم المتحضر.
كانوا يتقدمون علينا سريعاً في جوانب معينة بفارق الثروة ومزاياها على الصعيد الداخلي والخارجي.
وكنا نتقدم عليهم في جوانب قليلة أخرى بفارق النظام السياسي الجمهوري اليتيم في شبه جزيرة العرب.
أما اليوم، هم فقط من يواصل التقدم، بينما نحن انحدرنا باتجاه عصور الظلام والشتات من جديد، خسرنا -دون تعويض- كل شيء بسيط امتلكناه.
وها نحن مكشوفين بلا غطاء: لا ثروة وتنمية ورخاء مادي، ولا جمهورية وحرية وتعددية سياسية في إطار وحدة الكيان الوطني!
كون الخليجيين أخذوا في تطورهم السياسي والاجتماعي مساراً مختلفاً ليس له سند من النظريات والمعايير الشائعة في العالم المعاصر، فهذا الاختلاف ليس حجّةً عليهم طالما أن ذلك المسار يحقق أغراضه هناك وبشكل جيد حتى الآن.
وبما أنك أيها المثقف لم تجد في الكتب التي قرأتها ما يشبه هذا النموذج، أو يشهد بصلاحيته، فهذا ليس عيباً يجب عليهم تداركه.
التاريخ قوة من شأنها أن تحوِّل الطارئ والمحدَث إلى أصيل وتالد، فالطارئ لا يبقى طارئاً بمرور الزمان، والمحدَث كذلك.
حتى البدع ما إن تنتظم وتتقادم، تستحيل إلى سُنن في نظر من يعمل بها.
وهكذا حال الدول والممالك وغيرها من الكوائن، فهي تطرأ وتستَحدث على غير مثال سابق. ثم تتأصل بالتقادم.