سيكون العام 2024 عاماً يمنياً حافلاً بالتعقيدات.. بنهاية عاصفة الحزم دخل هذا الجزء من العالم دوامة لا يمكن التنبؤ بمنتهاها، لكن الحتمي أنها لا تحتمل كثيراً من التفاؤل.
الظروف الإقليمية فرضت مرة أخرى التعجيل بإعلان خارطة طريق أممية لوقف حرب التسعة أعوام، بعد أن التقطت الأطراف اليمنية شيئاً من التوقف بما يسمّى “الهدنة”، والمجلس الرئاسي المنقسم في طريقه إلى التفكك ما أن تبدأ مناقشات الوفد التفاوضي، ولطالما تجنبت رؤوس المجلس أن تواجه السؤال الصعب حول ماهية الدولة التي يمثلونها، فكل رأس له نظرة في شكل الدولة بين جنوب وشمال وبين دولة وطنية وأخرى دينية قبلية.
في الوقت الذي تقدم فيه جماعة الحوثي خطاباً حاداً للمجتمع الدولي وتعلن تحديها للولايات المتحدة بعد هجماتها الصاروخية على إسرائيل وقرصنتها للسفن التجارية في جنوب البحر الأحمر وباب المندب، جاء إعلان المبعوث الأممي هانز غروندبرغ عن البدء في فصل من الفصول الممتدة في الأزمة اليمنية، التوقيت بحد ذاته غير مشجع، غير أنه جاء رغم أنه تأجل منذ أن زار السفير السعودي محمد آل جابر صنعاء في أبريل 2023، بعد تسعة أشهر من التردد، ومع أزمة إقليمية أشعلت حرباً متعددة الجبهات، ومع ذلك فإن الأطراف اليمنية ستمضي في طريق ما يفترض أنه سلام، بينما هو في الواقع السياسي طريق سيقود إلى أزمات منتظرة.
الحديث الأممي يتناول مسألة بناء الثقة عبر محاور إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين وصرف المرتبات وإعادة تصدير النفط، ولكن ثمة ما هو أهم من ذلك إن كان المجلس الرئاسي نفسه منسجماً مع نفسه، فلقد تباينت الآراء وما زالت متباينة حول كافة المحاور، بما فيها ما استجد من مشاركة اليمن بصفته المعترف بها دولياً في التحالف الدولي لمواجهة التهديدات البحرية الحوثية. وفيما بادر المجلس الانتقالي الجنوبي للمشاركة بدوريات بحرية ضمن التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب والذي يعمل في اليمن من بعد العام 2015، وهو الذي قدم دعماً لوجستياً للقوات السعودية والإماراتية في نطاق عملياتها العسكرية الخاصة بمكافحة الإرهاب والتي شملت المحافظات الجنوبية، اعتمدت الحكومة الحياد في إشارة صريحة إلى عدم الرغبة بالتصادم مع جماعة الحوثي.
المبادرة الوحيدة التي كانت مواتية تلك التي قدمها وزير الخارجية الأميركي جون كيري عام 2016 فهي حملت ملامح واضحة للحل السياسي باستبعاد عبدربه منصور هادي وحليفه علي محسن الأحمر، غير أن جماعة الإخوان أجهضوها وفوّتوا الفرصة الممكنة. أما هذه المبادرة فهي بوضوح جاءت في سياق ضغوط الحزب الديمقراطي على السعودية حتى استجابت الرياض وحاولت المناورة عبر إعادتها للعلاقات الدبلوماسية مع إيران، غير أن الضغط انتهى للقبول بمبادرة أممية تمنح جماعة الحوثي شرعنة سياسية مقابل الخروج السعودي من حرب اليمن دون تحقيق أهدافها المعلن عنها في مارس 2015.
الخارطة الأممية لا ترسم سلاماً مستداماً، بل تخرج السعوديين من الوحل اليمني. والملف الاقتصادي وإن عالجته الخارطة بمساهمات سعودية لدفع مرتبات الموظفين إلا أن التنفيذ الصعب سيبقى مع عودة تصدير النفط من محافظات الجنوب. إشكالية توحيد البنك المركزي ستدفع الأمم المتحدة للعمل على أن يقبل الطرفان على إيداع الإيرادات في صنعاء وعدن. أي أن القبول بمسألة التوازي سيفرضها الواقع الضاغط على الطرفين معاً، وتبقى الآليات وغيرها مجرد مسائل إجرائية ستعالج متى ما وقع الطرفان تحت ضغط المطالبات بدفع الرواتب، وهو ما يعني أن على الأمم المتحدة أن تبدأ من بداية توقيع الخارطة على رسم ملمح الشكل النهائي للبلاد فلن يكون الجنوب ثمناً لتسوية بين اليمنيين الشماليين.
لا يمكن التفاؤل مهما أغدق الإعلام معتبرا أن الخارطة ستؤدي إلى حل مستدام، فالتاريخ اليمني يرشدنا إلى أن الاتفاقيات تتلوها حروب دامية. في صيف 1994 رعى العاهل الأردني الراحل الملك الحسين بن طلال اتفاقية “العهد والاتفاق” انتهت باحتلال الشمال للجنوب. وفي عام 2014 انفض مؤتمر الحوار الوطني في صنعاء بانقلاب تحالف فيه الرئيس صالح مع الحوثيين وحاولوا بعده احتلال الجنوب، إلا أن الإمارات كان لها موقف صارم بدعمها للمقاومة الجنوبية، انتهى بتحرير عدن عام 2015. وحتى اتفاق الرياض 2019 بين المجلس الانتقالي الجنوبي وشرعية هادي الإخوانية انتهى عملياً بمحاولة غزو عدن، لولا أن الإماراتيين ساندوا الجنوبيين وفوّتوا على حزب التجمع اليمني للإصلاح ما كان يريده طمعاً في المحافظات الجنوبية.
اليمن يمنان، هذا ما ستفضي إليه الدوامة حتى وإن طال مداها، فالشمال تحت سطوة الحوثيين بات قوة تنازل القوى الدولية الكبرى، وها هو يفرض على المجتمع الدولي إرهاباً عابراً للبحار. إيران فازت باليمن والخارطة الأممية ستشرعن ذلك، وسيتعين على الجامعة العربية القبول بواقع الجمهورية الإسلامية اليمنية كما أن عليها أن تقبل إعادة كرسي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية إلى الوريث الشرعي الذي دافع عن حقوق الأمن القومي العربي كما هي، كان قد صنعها الزعيم جمال عبدالناصر بعد العدوان الثلاثي. القبول بالواقع مهم استيعابه، فلا يمكن السير في أوهام لم ولن تنتج سوى حروب وصراعات.
وحتى تصل عدن وصنعاء إلى مستقرهما سيتعين على الجنوبيين الاستمرار في مكافحة الإرهاب، فهذه معركة رئيسية حققوا فيها نجاحات مهمة ولا يمكن خسارة هذه المعركة أبداً. كما أن على الجنوبيين أن يعززوا من عقيدتهم الوطنية فاستعادة وطنهم على ما قبل 1990 يقتضي تعميقاً وطنياً لبناء دولة الاستقلال الثاني. أما القوى الشمالية فعليها تكرار ما فعله آباؤها بالذهاب إلى نسخة القرن الحادي والعشرين من مؤتمر خمر. فقبائل اليمن لديها من القدرة أن تنتج تزاوجاً سياسياً يجمع بين الحوثيين وغرمائهم، وكما تزاوجت الإمامة بالجمهورية وأنتجت نظاماً هجيناً بين الدولة والقبيلة يمكنهم أن يكرروا ذلك.
المقبل على اليمن قاتم، فليس للنفق المظلم نهاية، والمشهدية السوداوية تطغى على بلاد باتت ضحية نفسها قبل أن تكون ضحية تدخلات أياد خارجية لطالما تلاعبت بها.
*نقلاً عن صحيفة العرب