محمد العلائي
ملوك وزعماء مصر في محكمة نجيب محفوظ
هناك رواية مغمورة لـ نجيب محفوظ، رشيقة، خفيفة، تحمل هذا العنوان الطويل: "أمام العرش، حوار مع رجال مصر من مينا إلى أنور السادات".
الرواية صدرت عام 1983م.
وفيها يستدعي الكاتب ملوك وزعماء مصر منذ الملك مينا للمثول أمام محكمة من الآلهة الأسطورية المصرية القديمة تتألف من أوزوريس وإيزيس وحورس وكاتب الآلهة تحوت.
يدلي كل ملك أو زعيم وطني بنبذة قصيرة عن نفسه وأكبر مآثره، وبعد ذلك يخضع للاستجواب والمناقشة من هيئة المحكمة التي تسمح لمن يرغب من هؤلاء الملوك والقادة، الذين ينتمون إلى عصور متفرقة، في استجواب ومساءلة زميله.
غاب عن المحاكمة ولاة وسلاطين مصر الأجانب باستثناء محمد علي باشا وعدد قليل ممن تمصَّروا.
في الرواية يصوغ محفوظ احتجاجاً صريحاً ضد نزعة جمال عبد الناصر العروبية، ويقدّمه على لسان الملك مينا (توفي 3125 قبل الميلاد) الذي يُنسَب إليه توحيد مصر العليا والسفلى لأول مرة في التاريخ:
"وتكلم الملك مينا فقال [مخاطباً عبد الناصر]: ولكن اهتمامك بالوحدة العربية فاقَ اهتمامك بالوحدة المصرية، فحتى اسم مصر الخالد شطبتَه بجرة قلم، واضطررت العديد من أبناء مصر إلى الهجرة التي لم يمارسوها إلا في فترات قهر عابرة!".
وفي الحديث عن شطب "اسم مصر الخالد" إشارة إلى "الجمهورية العربية المتحدة"، وهو الاسم الرسمي للكيان السياسي الناشىء عن الوحدة المصرية مع سوريا عام 1958م والتي لم تُعمَّر أكثر من أربع سنوات.
في الرواية يقسو محفوظ في محاسبة محمد علي باشا وجمال عبد الناصر، ويبدي تعاطفا قويا مع نهج الرئيس السادات، حرباً وسلماً، ويُفرِد للزعيم المصري سعد زغلول مساحة كريمة للدفاع عن نفسه رداً على من انتقدوا قبوله العمل في ظل الاحتلال الإنجليزي قبل ثورة 1919م، وعدم انضمامه للحزب الوطني.
ومما جاء في دفاع زغلول: "كان الحزب الوطني يدعو إلى مبادئ خيالية، من ذلك أنه لا مفاوضة إلا بعد الجلاء، مما يعني بقاء الاحتلال إلى الأبد، ومنه مقاطعة الوظائف العامة لهيمنة الإنجليز عليها، ولا يكفي في نظري أن تطالب الناس بسلوك معيَّن، ولكن يجب أن يكون هذا السلوك ممكناً دون تهاوُن أو إجحاف، وأن يصلح للتطبيق العام، وقد استطاع مصطفى كامل مقاطعة الوظائف بما كان يمده الخديوي وغيره به من مال، واستطاع محمد فريد ذلك لثرائه الواسع، ولكن ماذا يصنع أتباع الحزب؟ إن اتبعوا مُثل زعامتهم هلكوا، وإن خالفوها مضطرين خانوا العهد، فكيف يدعو أناس إلى ذلك المبدأ المتعالي الذي يعز على التطبيق، ويورث الشعور بالإثم؟
ثم كيف نترك الوظائف العامة للأجانب؟
وقد قبلت الحياة الرسمية؛ لأمارس من خلالها ما استطعته من مقاومة، ومن أداء خدمات لوطني كان في أشد الحاجة إليها، وقد اعترف بذلك خصومي قبل أصدقائي!".
من مجمل هذا النص الجميل والفريد من نوعه في الأدب العربي يمكن للمهتم أن يعرف الكثير عن الميول السياسية والوطنية لـ نجيب محفوظ.
ما يُحسَب لهذا الكاتب الفذ هو إصراره على كتابة الرواية الواقعية في الوقت الذي كان الغرب قد تجاوزها بل ونادى باحتقارها.
وقد استطاع أن ينجح وأن يبهر العالم،
والفضل يعود إلى شيئين: الحسّ التاريخي، والمعرفة العميقة بالنفس.
كان على اطلاع جيد ومواكبة دقيقة للأدب الغربي، وكان يقرأ هجوم كبار النقاد على الواقعية باعتبارها مرحلة يجب تخطيها لصالح تيارات جديدة في الكتابة: تيار الوعي واللاوعي والعبث والواقعية السحرية وما شابه ذلك من المسميات.
لكن هذا الكاتب العظيم لم يجفل ولم يغتر فينسى نفسه ومحيطه التاريخي والاجتماعي الخاص وزمنه والأرض التي يقف عليها.
كان يعرف أن الواقعية طور لم يكن قد أخذ مداه في الرواية العربية التي كانت حينها في وضع تأسيسي بالقياس إلى الرواية الغربية.
وليس من الحكمة القفز المفاجىء على سبيل التقليد والمسايرة البلهاء إلى منزلة دونها منازل ومرحلة دونها مراحل.
يشرح محفوظ موقفه هكذا: "بالنسبة لي وللواقع الذي أعبر عنه لم يكن قد عولج معالجة واقعية بعد حتى أقدم على استخدام الأساليب الأدبية الحديثة التي كنت أقرأ عنها وقتئذ، كيف أغوص إلى واقع لم يوصف في ظاهره، ولم ترصد علاقاته، في خان الخليلي، ناس أحياء، يعيشون ويتألمون، ويترددون على المقاهي، الغوص إلى الداخل يبدو منطقياً مع بطل جيمس جويس لأنه منطوٍ ومغلق، المهم أن يدرك الكاتب الأسلوب المناسب للتعبير عن موضوعه وعن نفسه".
ثم يضيف: "كنت بلا مرشد، وبلا دليل، وكنت أكتب وفق منهج أقرأ السخرية منه [يقصد المنهج الواقعي]، أقرأ نعيه، لكنني الآن أعتقد أن إدراكي كان سليماً، وكان مما يزيد الأمر صعوبة أننا نفتقد التراث الروائي في الأدب العربي"، (من كتاب "نجيب محفوظ يتكلم"، جمال الغيطاني).