في نهاية حياته، يعترف الشاعر والكاتب الألماني جوته بأنه لم يكن صديقاً للثورة الفرنسية، ثم يوضح السبب: "لقد كانت أهوالها عاجلة جداً على حين لم تكن آثارها النافعة منظورة".
هذا التسبيب هو المهم هنا، لأنه يصلح للاستخدام في مواضيع ومناسبات راهنة هي أقرب إلى معناه من الثورة الفرنسية التي باسمها اجتاح نابليون ألمانيا بلاد جوته، ولعل هذا واحد من أسباب عدم رضاه عنها.
قول جوته يوضح كم من الصعب الحكم بيقين على قيمة حدث تاريخي كبير قبل أن تتكشف عواقبه، حتى لو كانت قيمته الأخلاقية واضحة منذ البداية وكامنة فيه.
العواقب منها العاجل ومنها الآجل.
الفعل الصائب بمقياس الحق المجرد قد لا يكون كذلك بمقياس السياسة، مقياس السياسة المصلحة، والمصلحة منها القريب العاجل ومنها البعيد الآجل.
يقول العروي: "كل عمل تاريخي ناقص بدون معرفة نتائجه، وهذه تتشعب وتتوالى إلى ما لا نهاية، وكل حكم في التاريخ قابل للاستئناف للسبب ذاته. وهذا المبدأ (أو الافتراض الفلسفي) هو في آن واحد أساس النزعة التاريخية (التاريخانية) والديمقراطية والعلم الحديث"، (العروي، العرب والفكر التاريخي، ص93).
ويقول الشاعر الإنجليزي اللورد بيرون:
"إني أحكم بما أنتج العملُ من ثمرات، وإنها لَمريرة، بل إني مقسور على أن أجني هذه الثمار، وأن أستمرِئَها تكفيراً عن خطيئةٍ ما أنا بمرتكِبها".
ومما أؤثر عن السيد المسيح في إنجيل متى: "من ثمارهم تعرفونهم".
النجاح لدى ابن خلدون، وهو ما يسميه "تمام الأمر"، من براهين صلاح القصد في السياسة، وهذا ما يقوله في المقدمة خلال حديثه عن المهدي بن تومرت في المغرب: "ومع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تمّ أمره وانفسحت دعوته سنّة الله الّتي قد خلت في عباده".
والنجاح كما كتب نيتشه هو "غالباً ما يُضفي على عملٍ ما -البريقَ الصادق لراحة الضمير، بينما يغمر الفشل أَجلّ الأعمال بظلال تأنيب الضمير. من هنا تأتي قاعدة العمل المعروفة للسياسي الذي يفكِّر: إعطني نجاحاً فقط، وبه سأكون قد كسبت إلى جانبي كلّ الأرواح الصادقة، وأكون قد جعلت منِّي رجلاً صادقاً في عين نفسي".
وإذا كان البرهان في عالم الحقائق هو الذي يقرِّر كل شيء، فالنجاح هو الذي يقوم بهذا التقرير في عالم الوقائع، كما يقول اشبنجلر.
لكن هل هناك معيار موضوعي للنجاح؟
النجاح من المنظور الوطني الحديث يقاس بمقدار القرب أو البعد من الغايات، غايات المجموع لا المفرد.
في اليمن حالياً حتى المستفيدين على الصعيد الشخصي، أقصد حتى الذين ازدهرت أحوالهم الخاصة بسبب/ أو بالتزامن مع مجمل الظروف والأحداث الجسيمة التي عصفت باليمن في السنوات العشر الأخيرة، حتى هؤلاء لا يستطيعون التعبير عن سرورهم ورضاهم إزاء الوضع التاريخي الناتج عنها، لا يمكنهم القول [علناً على الأقل] إن الأمور طيبة بأي صورة من الصور، أو أنها لا تستدعي إظهار أي قدر من الحسرة والسخط والحزن، على الرغم من أن بعضهم مدرك تمام الإدراك أنه مدين بالنجاحات والخيرات والمكاسب والترقيات التي حظي بها على الصعيد الشخصي الجزئي، إلى سلسلة الأحداث والتحولات الكبرى التي انتهت برسم هذه اللوحة الكئيبة للخراب والتمزق والفساد الذي طال تقريباً كل ما هو مهم وثمين بالمعيار الوطني.
ما أريد قوله هو أن أغلب هؤلاء، ورغم أن أحوالهم الشخصية تحسنت كما أسلفنا، لا يسعهم إلا الإقرار بالحقيقة المريرة الجلية الساطعة وهي أن اليمن في حالته الراهنة بلد منكوب وتعيس ومحطم بلا إرادة ولا كيان، سواءً بالقياس إلى غيره من البُلدان المستقرة، أو حتى بالقياس إلى ما كان عليه قبل اندلاع الفوضى والحرب.
لماذا لا يسعهم إلا الاعتراف بهذا؟
لأن الحكم السليم على الأعمال والأحداث ليس ممكناً إلا من منظور وطني عام يأخذ في اعتباره المجموع الكلي لليمن الكبير، أرضاً ومجتمعاً وأفراداً ومصالح.. فالانطلاق من هذا المنظور لتقييم الأمور يؤدي حتماً إلى نتيجة مختلفة عن النتيجة التي قد نخرج بها فيما لو انطلقنا من المنظور الجزئي الشخصي أو الحزبي أو الجهوي أو المحلي الضيق.
إذاً.. حتى كبار المستفيدين، أكانوا أفرادا أو جماعات أو زعامات لمشاريع جزئية، يُجمعون على مأساوية وانحطاط الأوضاع في هذه المرحلة، لكنهم سيختلفون فقط حول من هو المتسبب الأول، وهذا دليل إضافي على أنها أوضاع بغيضة مخزية وإلا لما تنصلوا من نُسبتها إليهم، إذ لو كانت على عكس ما هي عليه لرأيتهم يتسابقون لإعطاء أنفسهم شرف المشاركة في صنعها.