قراءاتي في رمضان كشفت لي عن طبقة حديثة من المؤرخين والباحثين السعوديين تعمل بهدوء على إدخال تعديلات دقيقة جداً في الرواية التاريخية الوطنية التقليدية حول اللحظة المؤسِّسة للمملكة وذلك بهدف تغليب تاريخ الدولة (المُلك) على تاريخ الدعوة، في مواجهة تحديات واعتبارات متعلقة بالحاضر والمستقبل.
يتضمن هذا التوجه فصلاً منهجياً لبدايات الدولة السعودية -التاريخ السياسي- عن بدايات الدعوة الوهابية -التاريخ الديني-، والتأكيد على أسبقية الأولى زمنياً على الثانية، بل وأفضليتها من حيث القيمة والمكانة والدور، وهذا لا يعني مطلقاً إبعاد الدعوة من القصة بقدر ما يعني إعادة تعريف وموضعة محسوبة لمكانتها ودورها داخل القصة ذاتها.
وبما أن عملية حسّاسة كهذه تتطلب خروجاً ليس بالسهل على إرث وتقاليد مؤرخي الحركة السعودية الوهابية الأوائل، فإن المؤرخ والباحث السعودي الجديد يقوم بمراجعة وتنقية مؤلفات ابن غنام وابن بشر ومن سار على منوالهما، بروح نقدية وهاجس نهضوي عملي متصل بالحاضر، فيخالفهم في بعض ما ذكروه ويوافقهم في البعض الآخر، وقد يلومهم بتهذيب على تصوير بدايات الدعوة وكأنها هي نفسها بدايات الدولة، أو تصوير الدولة وكأنها عنصر تابع للدعوة الدينية، ثم ينتهي إلى إعادة بناء الرواية التاريخية وتأويل المواقف والعلاقات بشكل تظهر فيه الدعوة بوصفها هامشا في التاريخ السياسي للدولة.
انطلاقاً من هذه الرؤية صدر عام 2022م أمر ملكي باستحداث يوم وطني جديد يسمى يوم التأسيس يصادف 22 فبراير من كل عام، ويُقصَد به 22 فبراير 1727م، اليوم الذي تولى فيه الإمام محمد بن سعود الإمارة في الدرعية، فكانت قاعدة لتأسيس الدولة السعودية الأولى، لا سيما بعد المبايعة الشهيرة التي جرت لاحقاً -عام 1744م- بينه وبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب. [تحتفل السعودية كذلك باليوم الوطني الرسمي الذي يصادف 23 سبتمبر من كل عام، وهو اليوم الذي أعلن الملك عبد العزيز آل سعود توحيد البلاد تحت اسم "المملكة العربية السعودية" عام 1932م].
ما يريد المؤرخ والباحث السعودي الجديد قوله هو أن القصة ليست دعوة دينية تحولت إلى دولة، كما هي الفكرة الشائعة في السعودية إلى وقت قريب، وإنما إمارة تحولت بالدعوة وأشياء أخرى عديدة إلى مملكة مترامية الأطراف.
فتحديد يوم التأسيس باليوم الذي تولى فيه محمد بن سعود عام 1727م الإمارة في الدرعية معناه أن "الإمارة" هي أصل القصة ومركزها وليس الدعوة، وأن للدولة اليد العليا دائماً على الدعوة وليس العكس.
مع أن إمارة الدرعية لم يؤسسها هذا الأمير، فهي أقدم بكثير (ظهرت فيما يقال قبل ثلاثة قرون من عصر محمد بن سعود على يد جده الأكبر مانع المريدي)، وما اختيار يوم تنصيب محمد بن سعود بالذات كبداية رمزية للدولة السعودية إلا لأنه الرجل الذي آوى الشيخ محمد بن عبد الوهاب مؤسس ما عُرفت باسم "الدعوة الوهابية"، بعد 17 عاما من توليه الإمارة، فاعتنق دعوته وعقد معه معاهدة حماية وعمل ومصير عام 1744م.
في الرؤية الجديدة، لم تعد لحظة انعقاد ذلك الحلف بين الشيخ والأمير هي بداية التاريخ السعودي، وإنما هي لحظة تالية نجمت عن اللحظة السابقة لها والمتمثلة في تولي الأمير محمد بن سعود زمام الأمر في الدرعية، ثم أعقب هاتين اللحظتين ما تلاهما من المراحل التأسيسية التي وسعت نفوذ آل سعود خارج نجد، في أطوار تاريخية ثلاثة متباينة في الحجم والقوة والاتساع.
هذا الفارق في ترتيب الأحداث وفي التأصيل والتفسير الذي يحرص المؤرخ والباحث السعودي الجديد على إبرازه في روايته، له أهمية مصيرية ليس فقط في ما يتعلق بالماضي بل بالحاضر والمستقبل.
إن القول بأن الدعوة الوهابية أضيفت إلى الإمارة السعودية وليس العكس، معناه أن الدعوة الدينية لم تكن شرط وجود بالنسية للدولة -السلطة السياسية- وإنما كانت لا سيما في مراحل بعينها شرط نجاح، عامل مساعد، وهذا القول لا يستوجب بالطبع جحوداً وإنكاراً للدعوة ولا تنصلاً عنها.
هذا التوجه النظري يعيد الاعتبار لفكرة جوهرية منسية وهي أن الوهابية في الأصل حركة إصلاح تختص نظرياً وعملياً بأمور العقيدة والدين، أما في أمور السياسة والاجتماع والتمدن والعمران فليس لها مقالة خاصة ولا "نظرية" وإنما ارتبطت بعلاقة "عملية" مع سلالة حكم ملكية دنيوية كانت موجودة سلفاً ولم تكن تسند شرعيتها إلى نص ديني أو دعوى لاهوتية، بل إلى النبالة وشرف المحتد العربي وشرعية الإنجاز والتفوق السياسي وأعمال الفتح والغزو وغير ذلك مما يستند إليه الملوك والأمراء عادةً من أصول وركائز لتثبيت وتقنين سلطانهم.