في التعامل مع ما سميت بـ"الفتنة الكبرى" التي بدأت بمقتل عثمان، انحاز فريق، أُطلق عليه فيما بعد اسم "أهل السُنَّة والجماعة"، إلى وقف التنازع الفكري والأدبي حول أحداثها ورجالها، عبر تسوية أخلاقية ونفسية يوافق المسلم من خلالها على أن كلا الطرفين، معسكر علي ومعسكر معاوية، فضلاء وصالحون كونهم عاصروا النبي محمد وشهدوا ميلاد الإسلام.
وقد لخَّص ابن تيمية الموقف العام الذي انتهى إليه هذا الفريق بقوله: "ولهذا كان من مذاهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم"، (ابن تيمية، منهاج السنة، ج4، ص448).
ولم يكن من قبيل الصدفة تسمية التراث السُني للعام الهجري التي قام فيها الحسن بن علي بن أبي طالب بمبايعة معاوية بـ"عام الجماعة".
في حين رفض الفريق الثاني، وهو الشيعة، رفضاً قاطعاً هذه التسوية، لأنها من وجهة نظره جائرة ومنافية للعدل والحق الإلهي الذي يتمحور فقط حول علي بن أبي طالب وذريته من الحسن والحسين.
وبقي هذا الموقف من بين المحدِّدات الرئيسية لماهية الشيعي.
مع مرور الوقت، صار "التشيُّع" اسماً مرادفاً للتجريد والتعصُّب والانشقاق النفسي والمعرفي بل والعملي عن المجرى العام الفعلي لتاريخ الجماعة الإسلامية.
يمكن قول الشيء نفسه عن الخوارج، أو المعتزلة، مع اختلاف الطبيعة الغالبة على كل فرقة من هذه الفرق، واختلاف الأفكار والدوافع وأساليب العمل ومستوى الحضور والتأثير في التاريخ؛ فالاعتزال مثلاً هو في الغالب انشقاق عقلي أدبي.
لقد كان التطرف النظري في المذهب الشيعي، كما يقول العروي، "باستمرار عامل قوة على المستوى الفكري (الايديولوجي) وعامل ضعف وتخاذل على على المستوى العملي"، (العروي، السنة والاصلاح، ص131).
في المقابل، كان لـ"التَسنُّن" معنى مرادف للمواءمة النفسية والعقلية مع الواقع، أي مع الممكن التاريخي، والسعي لاستنباط سُنن وقواعد عمل من السوابق الناجحة.
يقول العروي: "الوحدة دليل الحق والتفرقة دليل الزيغ. هذا مقال السنة في كل ملة".
لهذا فالسُنّي التقليدي لا يمانع من الإعلان بأن علي -من منظور الدين وأحياناً النَّسَب- أفضل وأرفع درجة من معاوية، إلا أن السنّي يرى أيضاً أن مغزى هذه التفضيل يجب أن ينتهي باستشهاد علي، فليس من الممكن إسناد أي وضع أو حق سياسي مستقبلي لأي شخص أو نَسَب إلى أفضلية علي هذه التي هي تشريف معنوي يقدمه السني باستمرار وعن طيب خاطر.
كما أن تفضيل السُنّي لـ علي لا يكلفه بغض معاوية لمجرَّد أنه كان الفائز بالنتيجة في ختام تلك الفتنة/ الصراع.
يبدو لي أن مصطلح "فتنة" ينتمي إلى القاموس السُنِّي، فمدلوله وصفي ومحايد أخلاقياً ومعرفياً بين المتنازعين.
وعلى الرغم من تنوع معانيه وتعدد دلالاته، إلا أنه لا يستعمل غالباً على سبيل التحبب والمدح وإنما الذم والتحذير.
ويُخيَّل لي أن السُنِّي هو، بمعنى من المعاني، حليف لنوع من الماضي "الذي نُزِعَ فتيله"، بتعبير نستعيره من الروائي الأمريكي فيليب روث في روايته "حكاية أمريكية".
هذا يفسر لماذا كان أهل السنّة يشكلون الركيزة شبه الدائمة للدولة الإسلامية وللاستقرار والانتظام، فهم حلفاء الوضع الذي يلبي الحد المعقول من مصلحة الجماعة المسلمة.
ولهذا نجد على الجانب السُنّي الشطر الأعظم من الحضارة الإسلامية والتاريخ السياسي الإسلامي، أو ما يسميه العروي بـ"الإسلام التاريخي"، ويعني بذلك إسلام "السنة والجماعة".
يقول العروي: "الإسلام المعروف في التاريخ هو إسلام الجماعة. والاسم يطابق المسمى. هو إسلام أنشأته جماعة معينة عبر عملية طويلة بدأت مبكراً، في المدينة نفسها"، (مصدر سابق، ص132).
ولئن قلنا إن "تراث السنة تراث سلطة" فهذا ليس تقبيحاً له لمجرد كونه كذلك، ولئن قلنا إن "تراث المعتزلة والخوارج والشيعة تراث معارضة" فهذا ليس استحساناً له لمجرد كونه كذلك.
تاريخياً، فالاعتزال لم يكن بمنأى عن السلطة طوال الوقت، وكذلك التشيع، وإنما يُحكَم على هذه الفرق والمذاهب بما هو غالب من سيرتها.
غير أن ما نسمِّيه اليوم "التاريخ الوطني" لا يمكن إلا أن يكون تاريخاً توحيدياً، أي سُنِّياً، نعني تاريخاً توفيقياً، وهو أيضاً تاريخ اتّباعي غير نقدي، تاريخ اختزالي، تسووي، توليفي بعض الشيء بالمعنى الإيجابي لهذه الكلمة، مُنتخَب بعناية ليؤدي غرضا تكوينيا سياسيا واجتماعيا، لا غرضاً علمياً معرفياً صارماً، ولا غرضا أخلاقيا هوائيا غير قابل للتحقُّق والممارسة في الواقع الموضوعي، فأغراضه وأخلاقياته تكوينية ذات طابع عملي.
في حين أن السمة الغالبة على التاريخ العملي والنظري الشيعي -وبالأخص الزيدية- النزوع إلى الاستشهاد والتمرد والاعتراض والتظلُّم الذي لا ينقطع؛ ومن ثمّ، فالشيعي كان يقف غالباً على النقيض من الحضارة والعُمران بما هو ثمرة للدولة والانتظام.
ولطالما كانت انتصارات الشيعة فكرية سجالية، وهم يعوضون بها عن عجزهم أمام الواقع.
هذا بالضبط ما يذهب إليه المستشرق هنري لاوست: "ومنذ ظهور التشيع أسفرت آراء الشيعة عن عجز حقيقي في مجال التطبيق السياسي، ولم تفلح محاولات الدولة العَلَويّة فيما بعد في التغلب على هذا العجز إلا بمعاونة فعالة من جانب أهل السنة"، (هنري لاووست، "نظريات شيخ الاسلام بن تيمية في السياسة والاجتماع"، ص96).
وبما أن الآخر، بالنسبة إلى الشيعة بجميع فرقها، داخلي لا خارجي [داخل الجماعة الإسلامية لا خارجها]، فإن شعارات حركات الإسلام السياسي الشيعي الحديثة التي تعلن العداء للآخر الخارجي [الغرب المسيحي واليهود] تمثل -نظرياً على الأقل- انحرافاً عن الطبيعة الملازِمة للتشيع طيلة تاريخه.
ذلك أن الشيعي لا يكون على تآلُف تام مع عاطفته وثقافته التاريخية إلا في مواجهة الآخر الداخلي [المسلم] المتسبب -حسب اعتقاده- في ظلم "آل البيت" وحرمانهم من حقهم المقدس في قيادة الأمة.
نعلم أن موضوع الانقسام "السني" "الشيعي" مرتبط بجدليات ومفاهيم وحوادث التاريخ الإسلامي التي جرت في فضاء فكري وأخلاقي وسياسي مرسَل لا تقيده الجغرافيا والحدود القُطرية.
ولهذا فإن ما نحتاجه اليوم هو استنساخ الوجه الإيجابي لمفهوم السنَّة ونقله من الإطار الديني الإسلامي الصرف إلى الإطار الوطني الحديث المحدد بالأرض، بعد تحميل المفهوم بدلالات متناسبة مع الروح العامة المثلى للوطنية والاجتماع السياسي في عالم اليوم.
فنتحدث مثلاً عن "السنّة الوطنية"، عوضاً عن السنة بمدلولها الديني والشرعي الإسلامي الذي يجد مرجعياته في وقائع وآثار عصر النبي في المدينة بالحجاز والخلفاء الأربعة، وفي أعمال وأقوال السلف الصالح من بعدهم.
وإذا كان رجل الدين يريد بـ السنة مجموع السنن -نصوص وتجارب- المؤسسة للدين والشريعة الإسلامية، فرجل السياسة والدولة يريد بـ السنّة مجموع السوابق والسُنن الصالحة المؤسسة والمجددة للدولة الوطنية.