محمد العلائي

محمد العلائي

تابعنى على

عن "الدولة القُطرية" وبدائلها (1) الوعي والواقع السياسي في بلاد العرب

Thursday 16 May 2024 الساعة 08:55 am

دلَّت الأحداث الأخيرة من جديد على أن "الوعي السياسي" في بلاد العرب متأخر بمراحل على "الواقع السياسي": 

[الواقع] دُوَل وحدود وحرس حدود وخرائط وأعلام وألقاب وجيوش وسياسات وسيادات ومناسبات وطنية وتمثيل دبلوماسي وجوازات سفر، في حين أن [الوعي] مقيم بثبات في عصور الخلافة والإمامة والفتوحات العظيمة في الزمن الغابر، أو مقيم في أحسن الأحوال في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، الحقبة التي شهدت ذروة تفتّح الأحلام القومية العروبية المجنّحة.

نبيِّن في هذا المقال كيف أن انقسام العرب السياسي في شكل "دول قُطرية" أفضل ألف مرة من البديل الواقعي الآخر للانقسام الذي لاحت مؤشراته على مدى أكثر من عقدين في شكل من التشظي الفوضوي العنيف إلى طوائف وجماعات متناحرة دينية وقبلية وعرقية.

نحرص على تجنُّب المفاضلة بين الدولة القُطرية وبدائلها الرومانسية الوحدوية الحالمة بشقيها العروبي والإسلامي. 

عوضاً عن ذلك، سنكتفي بالتطرُّق إلى فشل أو استحالة تلك البدائل، ونجعل المفاضلة في النهاية بين الدولة القطرية كواقع وبين بدائلها الواقعية كما ظهرت في التجربة، أي أن مرجعية التفضيل بسيطة ومتواضعة تقوم على قياس واقع إلى واقع بدلاً عن قياسه إلى مثال.

ينشأ عن هذا أن هدم أو إضعاف الدول القُطرية، كوحدات سياسية قانونية قائمة بذاتها، لا سيما تلك التي لم يطلها الخراب بعد، لن يفتح الطريق إلى وحدة امبراطورية قومية عروبية أو إلى وحدة إسلامية كونية، وإنما إلى فُرقة وتفسخ وضياع من النوع الذي نراه في العراق واليمن وليبيا وسوريا!

لا بأس هنا من استخدام المصطلح المركَّب: "الدولة القُطرية" الذي صُيغ من منظور قومي عروبي للدلالة السلبية على الكيانات العربية التي نالت استقلالها في القرن الماضي.

والأصل أن نسمِّيها بالاسم الذي يدل عليها دلالة إيجابية، فنقول "الدولة الوطنية" أو حتى "الدولة القومية". 

من منظور الفكر العروبي، فالدولة التي لا تحتوي في كيانها شعوب الأمة العربية "من المحيط إلى الخليج" ليست سوى "دولة قُطرية" وذلك تمييزاً لها عن الدولة العربية الكبرى التي ينبغي أن تكون. 

من معاني القُطر في القاموس الناحية أو الجهة أو الجانب من الأرض، والجمع أقطار، "ومنه قيل القُطْر: لجملة من البلاد والنواحي تتميَّز باسم خاصّ"، وقد نقول بلد والجمع بُلدان، أو إقليم والجمع أقاليم.

لكن، وبعيداً عما يعتقده القومي العروبي، من المهم التنبيه إلى أننا نعني الشيء نفسه إذ نقول الدولة الأمة، أو الدولة القومية، أو الدولة الوطنية. 

ينتج عن ذلك أنّ أمَّةً ليست دولة لا يصح اعتبارها أمة، وقومية ليست دولة لا يصح اعتبارها قومية. 

الدولة شرط الأهلية لتكون الأمة أمّة حقاً والقومية قومية حقاً والوطن وطن حقاً.

ما تُسمَّى بـ"الأمم المتحدة" هي في الوقت ذاته "دول متحدة".

وعلى ذلك فكل "دولة" عربية مستقلة ومُعترَف بها هي "أمة" بما أنها تمتلك مقعداً في منظمة الأمم المتحدة.

الأمة في هذه الحالة ليست رابطة دينية أو ثقافية أو عرقية أو لغوية بل يجب فضلاً عن ذلك أن تكون رابطة سياسية يمنحها اعتراف مجتمع الدول صفة قانونية ومكانة رمزية اعتبارية تضعها من الناحية الاسمية على قدم المساواة مع كبير الدول وصغيرها.

يقول المفكر والناقد المصري لويس عوض: "وإنما نتحدث عن القومية الواحدة وعن الأمة الواحدة عندما تسقط الحدود السياسية بين مجموعتين بشريتين (أو أكثر) وتحتويها دولة مركزية واحدة يتساوى فيها كل أبنائها في حقوق المواطنة وواجباتها… ولهذا كان من تعريفات "الأمة" أنها شخصية قانونية مكونة من مجتمع يسوده دستور واحد وقوانين واحدة وسيادة لا تتجزأ على أرضه ومواطنيه".

وفي موضع آخر يقول وهو محق فيما قال: "وبهذا المعنى نحن لا نستطيع أن نتكلم اليوم عن "الأمة العربية" وعن "الوطن العربي" إلا بعد زوال الحدود السياسية داخل العالم العربى وقيام الدولة المركزية الواحدة التي يحكمها دستور واحد وقوانين واحدة وتكون صاحبة سيادة لا تتجزأ على كل أراضيها وكل مواطنيها".

ومن ثمّ فالقومية العروبية فرضية هوائية لا كيان لها في الواقع، في حين أن القومية الوطنية القُطرية [أو الإقليمية] واقعة موجودة ولها كيان. 

وبتعبير المفكر والناقد السوري جورج طرابيشي، في كتاب صدر مطلع الثمانينات، فقد "تقومنت" الأقطار العربية، والمعنى أنها اكتسبت طابعاً "قومياً" بفضل الدولة التي عبرت عنها.

ويعلِّق طرابيشي على الوحدات القُطرية بطريقة تُنبئ عن حسرة مفتعَلة: "زمن قُطري هذا الزمن الذي نحيا فيه. فيه صارت كل دولة قطرية بمثابة أمة وبديلاً عن الدولة القومية المنشودة. فلمعظم الدول القُطرية مجلس أمة، واقتصاد قومي، ومجلس أمن قومي، وشركة طيران قومية، وحتى مكاتب سياحة قومية ولباس قومي وطعام، قومي، علاوة على النشيد القومي والعلم القومي، الخ. ولئن وُصفتْ بعض هذه الرموز بأنها "وطنية"، فهذا لا يغير في مدلولها شيئاً، إذ المعنى في كلا الحالتين واحد: National".