محمد العلائي
عن "الدولة القُطرية" وبدائلها (2) الدولة تصنع الأمة
الدولة تصنع الأمة في البداية وليس العكس. بفضل قوة وفعالية الدولة لطالما استُحدِثَتْ أُمم على غير أساس سابق. والدولة في استعمالنا خلال المقال مفهوم أوسع وأشمل وأحدث من مجرد الحكومة أو السلطة أو الإمارة.
وإن حديث المناضل العروبي عن الحدود المصطنعة للدولة القُطرية يحمل على الظن بأن حدود سائر دول العالَم طبيعية أزلية!
في الحقيقة ما من دولة إلا وهي كيان مصطنَع، بمعنى أنه كيان نشأ في التاريخ، وهو ما يميزه عن كوائن الطبيعة كالسهول والجبال والأنهار والبحار.
وكون الدولة كذلك هو أمر مفروغ منه ولا يحتاج إلى جهد لإثباته.
والحال أن ما حدث في القرن الماضي هو أن الدولة القُطرية العربية انتصرت كعملية، في حين انتصرت الوحدة القومية العربية كنظرية.
الأولى تحققت على الأرض وفي الوقائع والأعيان،
والثانية حلَّقت في الأذهان والضمائر والكتب والمجلات والقصائد والفنون.
الأولى وُجِدَتْ كعملية بلا رديف نظري،
والثانية بدأت وواصلت وجودها كنظرية بلا رديف عملي في شكل دولة واحدة تضم كل البلاد العربية.
نخرج مما سبق بخلاصة أولية وهي أن لدينا في البلاد العربية نوعين من القومية: قومية دعوة وطموح خائب وقومية واقع ووجود محقَّق.
الأولى قومية العروبة، وهي رابطة لغة وثقافة وفكر لا رابطة دولة واجتماع وسياسة. والثانية قومية الدولة القُطرية، وهي رابطة موضوعية تضم في تكوينها كلاً من اللغة والدين والأرض والدولة والتقاليد والطقوس الوطنية.
لقد بدأ الوعي الحديث بالعروبة كإطار "قومي" بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي. استُخدمت أول الأمر كوسيلة لإعلان التمايز والانفصال عن الدولة العثمانية الإسلامية ديناً والتركية جنساً، ثم أصبحت عنصراً في الأدبيات النضالية التحررية ضد الاستعمار.
ولم يكن مما يشرِّف المرء -في خمسينات وستينات القرن الماضي- أن يعلن بفخر عن وطنيته القُطرية، بل إن كلمة وطنية ذاتها كانت في ذلك الحين أقل رواجاً واستعمالاً من كلمة قومية.
من بين منظِّري ودعاة القومية العروبية، كان نديم البيطار أكثر تركيزاً على العامل السياسي باعتباره حجر الزاوية في سيرورة التوحد العربي المأمول، رابطاً بذلك بين الأمة والدولة، خروجاً على تيار الفكر العروبي الحالم والمتأثر بالألماني فيخته الذي كان يميز بين الدولة والأمة، فإن مجموعة بشرية تشترك في الثقافة والوجدان واللغة والدين هي أمة مكتملة الأركان حتى لو كانت متعددة الدول.
أبرز ممثلي هذا التيار ساطع الحصري وقسطنطين زريق.
لم يتخلَّ هؤلاء عن الوحدة السياسية كهدف مطلوب لكنهم جعلوا الأولوية للتمهيد الصبور عبر تعزيز وحدة الثقافة والتربية والعقلية في كنف الواقع المجزأ إلى أن تنمو وتنضج شروط الوحدة.
كان الحُصري يقول: "يجب أن نعلم أن الدولة شيء والأمة شيء آخر".
أما البيطار فكان يرى أن عناصر اللغة والتاريخ والثقافة وحتى المصالح الاقتصادية وبمعزل عن العنصر السياسي -أي بدون الدولة كقوة عليا موحِّدة- لن تتضافر من تلقاء نفسها فتصنع وحدة كيان ومصير.
ولعل أشهر مقولة دارت في فلكها تنظيرات البيطار الوحدوية هي مقولة "الإقليم القاعدة"، ويعني بذلك وجود بلد يكون نواة إشعاع ونقطة جذب وتوحيد للبلاد العربية قاطبة.
ورغم أن "الإقليم القاعدة" فكرة مكانية جغرافية، إلا أن وظيفة هذا الإقليم تقابل الوظيفة التي تضطلع بها "العصبية" الخلدونية بوصفها القوة المؤسسة للدول، مع أن البيطار لا يقول هذا.
المفارقة أن بعض أفكار لويس عوض بشأن المسألة القومية تلتقي دون قصد مع رؤية البيطار التي يؤكد فيها على حتمية العامل السياسي لتوحيد قومية أو أمة.
عدا أن الدافع لدى الرجلين مختلف، دوافع البيطار نضالية وحدوية تستبدل واقع التجزئة القائم بالممكن الوحدوي الذهني، ودوافع لويس عوض سجالية تحليلة ترى في واقع التجزئة برهاناً على استحالة القومية العربية بالمفهوم السياسي.
يقول عوض: "فأول مظهر من مظاهر القومية العربية ظهور الدولة المركزية الموحدة صاحبة الولاية التي لا رجعة فيها على بلاد العالم العربى، على الأقل في الدستور والقوانين الأساسية ونظام الحكم والاقتصاد والجيش والسياسة الخارجية. قبل هذا لا مجال للكلام بأي معنى علمي وبأي معنى رسمي عن الأمة العربية وعن الوطن العربى".
وفي فقرة يقول عوض تماماً ما كان سيقوله نديم البيطار لكن الأول يقوله تعجيزاً والثاني يقوله على سبيل الحث والتشجيع: "وفى أكثر الأحوال فى التاريخ يتم هذا التوحيد القومي لإنشاء الأمة الواحدة بالقوة القاهرة، كما وحد مينا الوجهين (مصر العليا ومصر السفلى) وكروميل بريطانيا وهنري الرابع فرنسا ولنكولن الولايات المتحدة وبسمارك ألمانيا لتحقيق مصلحة حيوية مشتركة وليس بقصد الاستعمار والاستغلال".