يسود مشهد الصمت وترتفع أمام البوابة العتيقة صورة حديثة لشخصية أستعير هنا اسمها من جورج أورويل "الأخ الكبير" بعد ثوانٍ من انسدال تلك الصورة يبدأ الضجيج الصامت في مخيلة كل الحاضرين، ضجيج يستحضر فيه كل الأحداث والتصورات التي صنعت من هكذا شخصية تسيطر على بلد بقوة السلاح وقوة الخداع الديني.
في زاوية القاعة يذهب أحد الحضور في مخيلته عن تلك الصورة أبعد ما يمكن أن يتحدث الشخص مع نفسه ويواري انفعالاته ومشاعره تجاه الوضع القائم المظلم، يبدأ بنسج خيوط أحداث صنعها لتوه مستشهداً بالواقع، عن طفل أركعته الشوارع جوار براميل القمامة، وثكلى تتفحص الوجوه ولا تعرف أن فلذة كبدها تصارع صورته الرياح في شارع القيامة، وعن أحجار بيوت الشمال التي صقلها الحرمان ونتائجه من النواح صمتاً.
بدأت فعالية التمجيد "للأخ الكبير" وعلت صرخات من جوانب القاعة، ولا تزال وقائع الحياة اليومية التي تتفاعل مع الزمان والمكان لتصنع مشاهد لم يتمكن أحد من أن يتخيل حدوثها، لم تكن جبال الشمال يوماً بهذا الأسى والحزن والقيود التي تكبلها، الرجال بالصمت تلوذ في منازلها تكابد وتعاني حرمان الكلام بعد حرمان الأجرة والوظيفة والعمل، تنسكب أساليب العبودية في تفاصيل العبادة والدراسة ومناهج القراءة والكتابة.
استثمار الخيال للتعبير بصوت عالٍ لا يسمعه أحد أمام تلك الصورة يجد سبيلا نحو الانفجار الذاتي إن لم يكن هناك وعاء يجمع كل ضجيج يقاوم تلك الصورة ومشاهد الواقع الأليم، وعاء وحاضنة يستفز الخيال دوماً كنوع من التدريب على الصمود والمقاومة أمام القيود التي كبلت الأفواه على أن تنطق والعقول على أن تفكر، لا حركة للإنسان إلا بتصريح ولا فرح إلا بخبر، ولا صلاة إلا حسب ما تفرضه الإذاعة، صلاة يدفع الناس ثمنها خوفاً من التصنيف الطائفي، حتى الله لا يمكن معرفته إلا من خلال محاضرة، كل ما فيها أن الله المحبة تجعله بصورة شرير انتهج العنصرية ليمنح الحكم والسلطة لفئة من خليقته، وحاشاه أن يكون بتلك الصورة.
نعم نتحدث عن سجن كبير نسي أبناء الشمال فيه نوع الكلام بحرية والكتابة بحرية والصلاة بحسب الشريعة، السلطة الحوثية تحاصر الشمال بيتاً وشارعاً وحارة ومدينة وجبلا وسهلا، لها أعين ترصد في كل ركن ولها آذان تحصي نبضات تلك الأنفس التي لم تمت في منامها، والأدهى من ذلك أنها تستخدم القيم والأخلاق أدوات في تنفيذ رذائلها السياسية.
سجن كبير هو الشمال فيه ملايين البشر المعزولين عن العالم، يقاومون من أجل الحياة والمستقبل بقليل من الامل يرون منه شرارة تنطلق من هنا أو هناك عن وعد صنعاء مع الحرية، ولا بد للقيد أن ينكسر ولا بد أن ينقشع الظلم والتجهيل والتخييم العنصري الذي تمارسه الحوثية الإرهابية القادمة من كهوف الظلام الإيرانية.