سمير رشاد اليوسفي

سمير رشاد اليوسفي

تابعنى على

دولة بلا دين 

Saturday 02 June 2018 الساعة 10:46 pm

"الدولة ليس لها دين" بهذه الجملة المفيدة والمعبرة عن رؤيةٍ مُلهمة ختم الدكتور "أحمد شرف الدين" حياته.. وأحسَب أنّها كانت سبب مقتله، وهو في طريقه لحضور الجلسة العامة الختامية لمؤتمر الحوار الوطني في 21 يناير 2014 !.

والدكتور "شرف الدين" ( الذي كان أستاذاً للشريعة والقانون بجامعة صنعاء، وقيادياً في حزب "الحق" ومُمثلاً للحوثيين في "مؤتمر الحوار الوطني"!) علّل جملته المُتبصرة تلك بـ"إنَّ الدين يكون للشعب، والدولة في العصر الحاضر، ينبغي أن تغيب عن الخطاب الديني؛ لأنّها بعد تجربة مئات السنين، كانت عندما تتبنى الدين تُعممه في صورة مذهب معين، وتلغي المذاهب والأفكار الأخرى.. والصراع الذي حصل بين المسلمين كان سببه الدولة الدينية؛ لأنَّ الإسلام له قراءات متعددة وليس قراءة واحدة".

وتأسيساً على قوله هذا، فإنَّ الإسلام الذي أُحبّه وأفهمه، ومثلي كثيرون: يرفض بشكل قطعي الحُكم وفقاً للنسب أو الوصية ويعطي ولاية الأمر للقوي الأمين المُتفق عليه بغض النظر عن أصله ولونه..

لكن العرب والمسلمين احتالوا (مع الأسف) على هذا المفهوم القرآني.. وتنكروا له بمزاعم تسيء للإسلام وتدمغه بالعنصرية.. فيما أخذ به "الغرب" وطبّقه بما صار يُطلق عليه "الديمقراطيّة".

كما أنَّ استبداد الأنظمة الجمهورية في عالمنا العربي، وإخفاقها في تحقيق مبدأي العدل والمساواة، أتاح للتيارات السلفية بشقيها: "السّني" و"الشيعي" الخروج من الأجداث لتعيد للأذهان خلافات "السقيفة" وحروب "علي" مع "معاوية" و"الخوارج" والاقتتال على تسفيه صحابة الرسول، أو الدفاع عنهم، مع أنّهم بشرٌ لهم ما كسبوا، وقد خلوا إلى أعمالهم، ولنا ما اكتسبنا.

وفي رفض وتكفير "الديمقراطية" وفرض الاستبداد، يشترك سلفيّو "الشيعة" مع "السنة"؛ لأنّ "وليّ الأمر" بحسب مذاهب الشيعة ينبغي أن يكون من سلالة الحسين بن علي "الإمامية الإثني عشرية" وقريب منها مع قليل من الاختلاف "الإسماعيلية" فإن لم يتوفر فمن أبناء شقيقه الحسن "الزيدية الهادوية".

وفي الفقه النظري السّني بمذاهبه الأربعة، تتوسع "العنصرية" لتُصبح "الخلافة في قريش" وإن كان ظهور الانقلابات وحُكم العسكر ونشوء الجمهوريات، أجبرهم على قبول المُتغلب أياً كان نسبه، مع حرص فُقهائهم الجُدد على التبشير بقرب العودة إلى"الخلافة الراشدة" بشرط كفاءة النسب!.

لنتذكر جميعاً أنّ السلفيين "السّنة" يعتقدون كُفر "الأنظمة" المحتكمة للديمقراطية والتعددية السياسية، وصناديق الاقتراع، لا يختلف في تكفيرها "سلفيّان"، من العلامة "مقبل بن هادي الوادعي" إلى أي خطيب جامع منهم!.

كما هي أنظمة مُخالفة لمشيئة الله ورسوله، وفقاً لتعبير العلامة الزيدي "بدر الدين الحوثي" في رسالته "إرشاد الطالب"، التي قدّمها وأعدها للطبع "محمد عزان"، ففي الصفحة الـ 16 يقول: "الولاية بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي عليه السلام.. ولم تصح ولاية المتقدمين عليه: "أبي بكر وعمر وعثمان"، ولم يصح إجماع الأمة عليهم. والولاية من بعده لأخيار أهل البيت: "الحسن والحسين" وذريتهما الأخيار أهل الكمال منهم. والولاية لمن حكم الله بها له في كتابه وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رضي الناس بذلك أم لم يرضوا؛ فالأمر إلى الله وحده، وليس للعباد أن يختاروا، ولا دخل للشورى في الرضا؛ لأنه لا خيار للناس في أمر قد قضاه الله ورسوله".

وفي حواره مع صحيفة "الوسط" اليمنية (مارس 2005) فَرَّق بين "ولي الأمر" و"رئيس الحكومة" فولي الأمر، ينبغي أن يكون من "البطنين" ولا ضير بعدها من أنْ تخضع الحكومة التابعة له لنظام دستوري أساسه الشورى أوالديمقراطية.

والمقصود بـ"البطنين": "ذرية الحسن والحسين: ابني علي من فاطمة".. ومصطلح "آل البيت" مفهومه عند أهل السنة: "زوجات الرسول وأهله وَذُرِّيَّتِهِ".. 
أمّا الشيعة فيحصرونه في "الإمام علي وفاطمة وذريتهما فقط" ويرى مُعظمهم أنَّ "فاطمة" هي البنت الوحيدة للنبي، وفِي ذلك يقول المرجع الشيعي "على الكوراني العاملي": إنَّ لعلماء الشيعة رأيين في الموضوع، فبعضهم يرى أن رقية وزينب وأم كلثوم بنات النبي، وآخرون يَرَوْن أنهن ربائبه.. وأمهنّ "هالة" أخت خديجة التي ربتهن بعد وفاتها، كما يؤكدون أن خديجة كانت "عذراء" لم تتزوج قبل النبي صلى الله عليه وسلم.. ويستشهد الكوراني بحديث طويل في صحيح البخاري نجتزئ منه ما هو مُتعلق بموضوعنا: "عن نافع أنّ رجلاً أتى ابن عمر (....) قَالَ: فَمَا قَوْلُكَ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ؟ قَالَ: «أَمَّا عُثْمَانُ فَكَأَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَعْفُوا عَنْهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَتَنُهُ» وَأَشَارَ بِيَدِهِ، فَقَالَ: «هَذَا بَيْتُهُ حَيْثُ تَرَوْنَ».
ويفسر الكوراني إشارة ابن عمر إلى بيت علي أنّه كان مع النبي، وأنّه ذكر أن علياً عليه السلام خَتَن النبي - أي صهره على ابنته - ولم يذكر ذلك لعثمان، مما يشير إلى أنه صهره على ربيبته!

والكوراني المذكور أصدر قبل عامين كتاباً أسماه "اليمانيون" ذكر فيه مناقب أهل اليمن وأنًهم طلائع "المهدي المنتظر" وقال أنّه زار "صعدة" والتقى في مكتبة هناك الشيخ السلفي "مقبل الوادعي"، الذي بدا له شخصاً دون المستوى، عكس الصورة النمطية التي كانت مرسومة عنه.. وأرجع مؤلف هذا الكتاب، وهو قيادي في "حزب الله" اللبناني جذور أسرته إلى "مأرب". وله كتاب آخر مشهور ألّفه مطلع القرن الحالي عنوانه "عصر الظهور"، تنبأ فيه بظهور "المهدي" بعد ظهور "اليماني"، وبعد حروب وملاحم ودماء تحدُث في اليمن.. ومقتل ملك سعودي!

إلاَّ أنَّ باحثاً آخر من السعودية، ينفي أنْ يكون للرسول الكريم ذُرية على الإطلاق. ويقول عن نفسه أنَّه كان حنبليّ المذهب قبل أن يقتنع بمرجعية القرآن وحده ، ويكتب متخفياً تحت اسم "ابن قرناس" بسبب تضعيفه للأحاديث النبوية الشريفة. وله عدة كتب من أشهرها "سنّة الأولين" و"القرآن والحديث" و"أحسن القصص" ويلاحظ عليه موافقة أراء الشيعة في بعض الأمور.

من أقواله في آيات (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) "أنّها نزلت بحق أحد زعماء قريش كان مداوماً على تعيير الرسول ونعته بالأبتر. والأبتر: "من لا عقب له". ولو كان الرسول قد ولد له ذكور ماتوا صغاراً، كما يزعم المؤرّخون، فلن يُعيّره القرشي بأنه أبتر. وحتى لو أن خديجة لم تنجب لمحمد سوى بنات، فلا يمكن أن يعيّر بذلك، لأن من يستطيع إنجاب الإناث يمكن أن ينجب ولداً ذكراً فيما بعد.. ولو أنّ أي رجل تبنى بنتاً، وألحقها بنسبه، فلن يتسبب هذا بخلط نسب، لأن ذريتها سيعودون بنسبهم لوالدهم.. والقرآن نهى النبي عن تبني الذكور، ولم ينهه عن تبني البنات".

وخلاصة كل ماسبق، وجود أكثر من فهم للإسلام في بعض القضايا الخلافية، بسبب الاعتماد على أحاديث تناقض بعضها البعض.. ففي حين يمنح القرآن الأفضلية للأتقى، يحتكر الشيعة الولاية للإمام علي.. مع استشهادهم بأحاديث مُدونة في البخاري ومسلم، تشير إلى أفضلية علي أيضاً، بعد تأويلها.. وأنَّ ولايته لا تنتهي بوفاته، وإنما تتمدد لتشمل ذُريته إلى يوم الدين.

ولعلّ الخطأ في هذا الفهم هو إضفاء "القداسة" عليه وصبغه بصبغة دينية، وهو أمرٌ ليس مُستغرباً على المُروجين للحكم العصبوي.. فهم يعتقدون أنّهم من سلالة نقية، وأُسر عريقة فضلها الْخَالِق على بقية الخلق.. ويزعمون أن غيرهم ليسوا سوى أتباع أو رعية إن لم يكونوا عبيداً لهم.

وبإمكان أي قارئ متابع، الإطلاع في كُتبهم وصحفهم وقنواتهم الفضائية، فهي تزخر بهذا الفكر الذي لا يختلف عن الفكر "النازي" بما دعا إليه من أفضلية "العرق الآري".. ويشبه حد التماهي تقديس "اليهود" لأنفسهم واعتقادهم بأنهم"شعب اللّه" المختار وأحباؤه، وبقية البشر مسخرين لخدمتهم.

ولذلك كلّه استبشر اليمنيون بثورة 26 سبتمبر رُغم ما شابها من أخطاء، لأنّها خلصتهم من عبودية من يعتقدون أنهم "سادة"، لمجرد تخلُّقِهِم من نُطفة شخص يزعمون أفضليته.. في مُخالفة صريحة منهم لتأكيد القرآن بأنهم مخلوقون "مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ"، وأنّه "مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ".

فالحكم المُتدثر بالدِّين، الذي يحاول الماضويون على تفاوت واختلاف بينهم، إعادة بعثه، يُشرّع للتداول العرقي للسلطة، ليس عند الشيعة فحسب، بل حتى عند متعصبي السنة، مثل: تنظيم”داعش" الذي بايع "أبو بكر البغدادي" خليفة، وفقاً لشروط نص عليها فُقهاء السُنة من بينها نسبه القرَشي وقرابته من الرسول الكريم!

وفي اليمن، مع مرور السنوات الأربع الماضية، تم وضع أحجار الأساس لمخطط طائفي، من أهدافه إعلان فشل النظام الجمهوري، بما حواه من مظاهر غير مكتملة للديمقراطية.. وليس من قبيل الصدفة أن تتوزع في هذه الحرب معظم قيادات الأحزاب اليمنية التي كانت في السلطة والمعارضة مابين فُسطاطي السُنة والشيعة.. ومن ليس معها ينعتونه بكل النقائص.

لم يعد في اليمن رُشْد وحكمة يتفق على مرجعيتها كل الخصوم.. صرنا بلداً خالٍ من الإيمان والأمان.. قفراً من الحكماء والحُكام والحكومات.. يتقاتل المواطنون فيما بينهم، في مناطق كان من المستحيل التنبؤ بتحولها إلى ساحات للحرب، بسبب طبيعتها الجيواجتماعية، ما يُؤكد أن اصطناع مناطق الحرب تم وفقًا لذلك المخطط الهادف إلى تقسيم اليمن عُنوة على أسس مذهبية.. تبدأ في اليمن ولا تنتهي في السعودية.. وتعيد رسم الخرائط وفقاً لتناحر طائفي مشابه لما يحصل في سوريا والعراق والشام.

ودرءاً لذلك.. ينبغي مواجهة وتجفيف منابع الفكر المتدثر بخلافات الصحابة.. وإعادة من يروجون للخلاف المذهبي في جنوب اليمن وشماله إلى رُشدهم، حتى لا نظل نسمع ونرى هُتافات ومشاهد تُعيدنا 1400 سنة إلى الوراء.

تلك المُخططات لازالت تُراهن على أن مثل هذا الفكر العنصري الماضوي، بوجهيه الشيعي والسّني، سيجد قبولاً لدى أبناء اليمن تحت وطأة هذه الحرب بما تحمله من قهر وعسف ومعيشة ضنكة، فضلاً عما عاشه الجيل الحالي من قطيعة معرفية بتاريخ الإمامة السلالي، رغم مضيّ قرابة 56 عاماً على ثورة الأحرار، وقائدهم، "عبدالله السلال" المنسوب لأحد أجداده العاملين في "بيع السلال".. والتي كان يراها العنصريون مهنة وضيعة.

اليمنيون في أمّس الحاجة اليوم لخوض حربهم الوطنية من أجل تكريس الدولة المدنية، إلى جانب الشروع العاجل في إصلاحات سياسية واقتصادية وأمنية وثقافية، منها تجنيب الدين الخلافات السياسية، بحيث لا تترك الفرصة للدجالين ممن يظنون أنفسهم خلقاً آخر و"أنصاف آلهة" يخططون ويعبثون ويستغلون حاجة الناس للتغيير لفرض فكرهم الاستعبادي الكهنوتي.

واليمن بحاجة لسلطة الدولة الحديثة، في التصدي والمواجهة لكل ما يخالف المتفق عليه ، مع احترام المذاهب الدينية وحمايتها بوسائل قانونية حداثوية باعتبارها خصوصيات شخصية، شريطة عدم فرضها عبر مناهج التعليم ووسائل الإعلام العامة.. و منعها من أن تُصبح جزءًا من الحكم وإدارة شؤون الدولة.