لم ترسل الأمم المتحدة إلى اليمن النبيذ القديم في وعاء جديد، وإنما صدرت مزيجاً غريباً من شراب لاذع الطعم، شديد المرارة، وقد فشل المبعوثان السابقان جمال بن عمر، وإسماعيل ولد الشيخ أحمد في إقناع الأطراف بالتوصل إلى تسوية سياسية تضع خاتمة للحرب، أو أنهما في واقع الأمر فشلا في إقناع الحوثي بإلقاء السلاح، والعودة إلى حضن الدولة بسبب تعنت المليشيات المرتبطة بمرجعية خارجية.
وبصرف النظر عن إيماءات بالظنون إلى نزاهة ابن عمر، وكفاءة ولد الشيخ، فإن أحداً منهما لم يلق وراء ظهره بالمرجعيات والقرارات الأممية، خصوصاً القرار 2216، وإن كان ابن عمر قد تواطأ ونزل عند رغبة الحوثيين في إكراه القوى السياسية على أن توقع ما سمي «اتفاق السلم والشراكة»، تحت جبروت السلاح بعد ساعات قليلة من احتلالهم العاصمة في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، رغم علمه بأنه ينسف مخرجات الحوار الوطني، ومع ذلك فإن الحوثيين أنفسهم انقضوا عليه، وتابعوا الحرب، واحتلال المدن والبلدات، ووضعوا رئيس الدولة، ورئيس الحكومة، تحت الإقامة الجبرية إلى آخر القصة المعروفة.
على عكس سابقيه، جاء مارتن جريفيث ببضاعة ملغومة، وأراد أن يسلك طرقاً ملتوية تتوه فيها السياسة، فلا تبلغ غاية، ولا تنتهي إلى هدف، وفي سيرته الذاتية يوصف جريفيث بأنه من ألمع الدبلوماسيين الأوروبيين، ويمتلك خبرة في حل النزاعات الدولية، وإدارة الشؤون الإنسانية، وقد اشتغل في سوريا مساعداً للأخضر الإبراهيمي، وتولى إدارة المعهد الأوروبي للسلام في بروكسل لأكثر من عشر سنوات، ولا تنسبه السطور القليلة التي تقدمه في ال(ويكبيديا) إلى مدرسة دبلوماسية معينة، وخطر لي من طريقة مقاربته للمسألة اليمنية أنه قريب من وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر، في تجزئة المشاكل، والتدرج في الحلول، وكانت ما عرفت بسياسة «الخطوة خطوة» التي اتبعها كيسنجر في إدارة المفاوضات بين مصر و(إسرائيل) بمثابة الطريق إلى الكارثة.
كان كيسنجر شديد التحيز للكيان، قاصداً أن تخسر مصر أوراقاً مع كل خطوة، حتى إذا جاء الحل النهائي تكون في حالة ضعف، ويأس؛ فلا تأخذ ما أرادته في البداية، أو ما ظنته ممكناً عند منتصف الطريق. قبل هذا، نجح كيسنجر في فصل مسارات التفاوض عن بعضها بعضاً. وأخذ البلدان العربية متفرقة لكي تذهب إلى الحلول المنفردة التي أعطت «إسرائيل» فوق ما تمنت.
كيسنجر، على أي حال، كان وسيطاً غير نزيه بحكم يهوديته، والأهم بسبب تحيز السياسة الأمريكية ل»إسرائيل»، فماذا عن جريفيث، هل هو من هذا الطراز بالفعل؟
إن سيرة جريفيث المتاحة تسجل له شهادة بالنزاهة، غير هذا هناك أمر شخصي ربما يدفعه إلى التعاطف مع هذا البلد البائس، فقد خدم أبوه الضابط في الجيش البريطاني بعدن زمن الاحتلال للجنوب اليمن (1839 -1967)، وهناك ولد مارتن.
رغم ذلك فقد جاء بتصورات للتفاوض لا تبشر بإمكانية التوصل إلى تسوية، والواقع أن الرجل لا يتصرف على هواه، بقدر ما ينفذ سياسة القوى الكبرى صاحبة القرار في مجلس الأمن، والمعنى أن الأمم المتحدة لم تغير الظرف المرسل إلى اليمن وحده، وإنما وضعت داخله محتوى آخر، وقد اضطر وزير الخارجية اليمني في تصريحات صحفية قبل أيام أن يعترف بأن الحكومة اليمنية ودول التحالف تعرضت لضغوط كي لا تحرر مدينة الحديدة وميناءها، وأن جريفيث بدأ بممارسة تلك الضغوط من لحظة توليه الملف اليمني، وقال إنه دخل هذا المجرى الخطير من باب الجانب الإنساني، ولم يتردد الوزير في إرسال إشارات تنطوي على ارتياب كبير بدور بريطانيا التي تمسك الملف اليمني في مجلس الأمن، وأحسب أن الحكومة اليمنية ودول التحالف كانت تدرك أنها تتعرض لخديعة كبرى حين طلب منها إيقاف اندفاع القوات التي كانت على وشك أن تكمل مهمتها على الساحل، وأنها عندما وافقت على استراحة طويلة لم تقدم فرصة لإطفاء النيران في الحديدة، بقدر ما منحت الحوثيين الوقت لاتخاذ إجراءات ترفع تكلفة تخليص المدينة من قبضتهم.
أستطيع أن أجازف، وأجزم أن الاستغراق في السياسة بشأن الحديدة لن يوصل إلى نتيجة، لأن الحوثيين على غير استعداد للتنازل عن أي شيء، بما فيه تسليم الميناء للأمم المتحدة.
لقد كان من حسن التدبير أن تستمر الحكومة اليمنية في التعاطي مع المساعي الدبلوماسية من دون أن توقف عجلة حرب تحرير الحديدة.
إن خط تقسيم اليمن يلوح في الأفق إذا لم تتنبه حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي ودول التحالف إلى حبل النجاة الذي يلقيه جريفيث إلى الحوثيين، وتعمل بهمة على أن تنجز بالسلاح ما عجزت عنه السياسة..,,..