إذا كان الإماميون يعتقدون أن التاريخ لا يزال يقف إلى جانبهم، وإذا كان موقع هذا الاعتقاد في نفوسهم يرقى إلى أن يكون حتمية ذات سمات نبوئية، على اعتبار أنهم من أكثر الجماعات الغيبية قابلية لاعتناق هذا النمط من الحتميات دونما تبصر، فإن لحتميتهم هذه ما يقابلها وينقضها بحتمية يمنية مضادة تحظى بأساس قوي في متن التاريخ اليمني، وهي حتمية تقضي بأن صرح الإمامة ما إن يكتمل حتى يبدأ في التهدم والاندثار بعوامل من الداخل أو بفاعل من الخارج أو بتضافر من فاعلين داخليين وخارجيين. ويزودنا التاريخ بعدد كبير من الأمثلة والشواهد.
على أن الأمر لم يتوقف على معارضة الإمامة الهادوية من داخلها عبر اتخاذ إمام في مواجهة إمام بحسب التقليد السياسي الذي ظل سائداً في بعض نواحي اليمن إلى عام 1962. إذ لطالما ظهرت قبل هذا التاريخ نماذج كثيرة من التمردات والثورات والدول. كان اليمن خلال الألف عام مجالا جغرافيا واجتماعيا مهيأ باستمرار لنشوء وتحلل سلسلة من الممالك والسلطنات والدويلات التي كانت تظهر من الجنوب أو من الوسط أحياناً، أو من صنعاء والشمال والسهل الغربي ومن أنحاء مختلفة من البلاد. كانت هذه الممالك تنمو وتتوسع على أنقاض إمامة هادوية آفلة تجد نفسها مدفوعة إلى التقهقر والانكفاء، مرة بعد مرة، في داخل معقلها الأول، أقصى الشمال. لكن لعل السمة المشتركة بين جميع تلك الممالك والدول هو افتقارها لقاعدة نظرية سياسية دينية أو عرفية خاصة بها، على غرار نظرية الهادي، بحيث تتكئ إليها هذه الدول والممالك في تبرير سلطتها والدفاع عن استمرارها بغير انقطاع. كانت في الغالب ممالك وسلطنات وحركات سياسية يرتبط وجودها الأول بمركز سياسي لامبراطورية إسلامية يقع في بغداد أو القاهرة أو اسطنبول. لهذا السبب ربما لم يكتب لأي منها الاستمرارية، ولو كفكرة موروثة قابلة للإحياء والتواصل في الزمن كما هو حال الإمامة. كما شهد التاريخ ولادة دويلات وسلطنات يمنية أخرى من خلال الانشقاق وفرض أمر واقع، لكنها ظلت غير مدعومة بقاعدة نظرية للحكم.
وكان للمذهب الاسماعيلي دولة في اليمن، ولكنها تأسست كفرع محلي من مشروع لدعوة أوسع تحولت إلى امبراطورية على رأسها الخليفة الفاطمي في مصر. بينما أسس الهادي في صعدة دولته معتقداً أنها ستكون النواة لمشروع سياسي طموح يسعى نظرياً لمنافسة مركز الخلافة العباسية في بغداد.
والهادوية كانت "امتداداً مغايراً للزيدية الأصلية في بعض الفروع".
وقد كان اليمن المجزأ والمنقسم سياسياً أو الآيل للتجزؤ والانقسام، هو الشرط الثابت تقريباً الذي بدونه لم تكن الإمامة الزيدية لتحتفظ باستمراريتها كخلية ماكرة راوحت بين الخمول والوثوب الزائل. الإمامة هي واحدة من الأعراض المرضية لليمن الهش الذي حكمت عليه أقداره بنقص مناعة مزمنة كامنة في مادة وجوده نفسها. لم تكن الإمامة يوماً دليل عافية وانسجام ورفعة حضارية لليمن.
ولن يكون الأمر مثار استغراب إذا علمنا أن الإمامة قامت في البداية بدعوة من قبيلة يمنية صغيرة في صعدة كانت مختصمة مع قبيلة أخرى فتم مراسلة الهادي يحيى بن الحسين للمجيئ بغرض التحكيم بين القبيلتين من موقع المحايد. وبغض النظر عن الملابسات الكثيرة والحوادث التي اكتنفت مراحل التأسيس الأولى، إلا أن الأداة التحكيمية بين قبيلتين صغيرتين، لم تكن -ولا يمكن منطقياً أن تكون- صالحة للاضطلاع بدور تحكيمي أكبر وأوسع تتحد بموجبه سياسياً كل الكيانات الاجتماعية والمصالح والطباع والرغبات والمذاهب الأخرى في كامل إقليم اليمن. وتاريخ الهادي وذريته يشهد على أن الإمامة فشلت في أن تكون أداة توحيد حتى لمنطقة القبائل المتناحرة، والتي كان تناحرها هو الضمانة وجسر العبور لكل طامح علوي فاطمي إلى السيادة.
أطاحت ثورة 26 سبتمبر بالإمامة وأسست نظاماً جديداً ومزوداً بقاعدة نظرية متكاملة للشرعية تتسع بما يكفي لتشكل الإطار الوطني الغائب، نظرية يكون فيها الشعب، وليس خرافة التفويض الإلهي، هو مصدر السلطة، وتكون فيها الشرعية هي تلك التي يمنحها الشعب المصادقة والتفويص والرضا.
ولم تكن مسألة قيام نظامين جمهوريين في شطري اليمن في ستينات القرن الفائت محض صدفة تفتقر إلى المنطق أو إلى الأساس، بل كانت تلك الصيغة هي الحصيلة الواقعية الممكنة التي اهتدت إليها الحركة الوطنية واعتنقتها بعد عقود طويلة من التخبط والتيه والتجريب، لقد كانت هذه الوصفة هي أكثر ما يمكن أن يحتاجه بلد له خصائص وسمات اليمن الاجتماعية والتاريخية وحقائقه الجغرافية لكي يتمكن من توحيد كيانه وتشكيل شخصيته الوطنية.
الجمهورية إطار وطني جامع لليمنيين بكافة انتماءاتهم وإثنياتهم ومذاهبهم ومناطقهم.. ليست عقيدة موجهة ضد فئة أو عرقية بل هي عملية نقلت السيادة إلى الشعب كمبدأ أعلى يقف على النقيض من جميع دعاوى الشرعيات التي جذرها ديني لاهوتي أو تلك التي تبرر نفسها بدعوى النبالة والتفوق في النسب.
كانت العقود التالية للثورة بمثابة صيرورة ثورية مستمرة على صعيد الوعي والسلوك، في الثقافة والفكر والوعي بالذات الوطنية الجمعية. أدخلت الجمهورية، في مدى خمسين عاماً، عادات وممارسات سياسية جديدة، ورسّخت مفاهيمَ وأفكاراً وقيماً وأنماطاً تنظيمية أساسها المواطن الفرد، وأصبحت هذه الإضافات مع مرور الوقت من بديهيات الحياة اليومية. وهي مثل أي تحول عظيم في التاريخ، يبدأ كنظرية ثم "يتغلغل شيئاً فشيئاً في المتخيلات الاجتماعية ويغيرها"، حسب تعبير تشارلز تايلر.