لأني حزين وذهني مشتت وأعيش مع أسرتي منذ أربع سنوات ظروف النازحين الذين تركوا بيوتهم وحواريهم ومدنهم وتقطعت أرزاقهم وخذلهم الجميع، وأشوف الناس اللي كانوا أقل مني بسنوات ضوئية وقد أصبحوا اليوم ذا شأن، وأمورهم سالكة، وحياتهم ماشية، وأنا ملخبط صراحة كأي مواطن لخبطته الحرب.
ليش بطلت تكتب؟ أواجه هذا السؤال الصعب كثيراً، وأحتار في الإجابة، والحكاية على كل حال ليست دلعا ولا إحباطا ولا تحتمل أي تفاسير أخرى غير الذي أنا مقتنع بها.
قبل الحرب في تلك الأيام الجميلة كانت أحوالي جيدة، وقناعاتي التي أكتبها وأقولها لا تؤذي بلادي وتقدم الشر على الخير لا تحرض على القتل ولاتشجع جماعة لتقضي على جماعة أخرى تحت أي مبرر كان، والقضايا التي كنت أكتب عنها عادة ما تكون ظريفة، وكان ميسرا لي أن أكتب ما أريد من دون أن أكون مع فلان ضد علان، ويكفي فقط أن أكون مع بلادي ورفعة إنسانها، وكانت المخاطر بسيطة، والدنيا أمان والناس غير مشحونين بالكراهية والأحقاد، والكتابة وسيلة للتغيير السلمي.
ولكن الحال تغير الآن وأصبح هناك أطراف تحمل السلاح ضد بعضها، وعليك أن تكون مع أحدهم كيفما كان وضعه عشان تعيش وتأكل وتشرب وأنت متهني ومبسوط وتقع بين الناس رجال مشحوط.
وأنا في حقيقة الحال لا أستطيع أكون ذلك المشحوط الذي يساهم بطريقة أو بأخرى في دمار مجتمعه وخراب بلاده وإذكاء نار الخصومة بين أبناء وطنه الواحد وقناعاتي التي أؤمن بها وأعيش في سبيلها ويفترض بي أن أكتبها للناس لم تعد تؤكل عيش ولا تشعرني بالرجولة وبالشحطة، لأن هذا هو زمان الطراطير.
ومش أنا وحدي بس من يعيش هذه المحنة، هناك شخوص كثر مثلي ضاعوا بين الطراطير ولا يشعرون بالشحطة ولا يجدون سبيلا للنجاح أثناء الحروب، ويمكن لأتفه مفسبك أو فارغ ابن فارغ أو مبندق لا يفقه شيئاً أن ينجح ويتفوق عليك، لأن الحروب باب مفتوح لكل متنطع، وأرزاق الحرب ميسرة لكل تافه ومجرم وعديم الشرف، وأفكار الحرب دائماً بسيطة وغير معقدة ويمكن الكتابة عنها بسهولة على عكس الكتابة بدافع الحب والسلام واحترام حق الناس في العيش الكريم تبدو مسألة صعبة أثناء لعلعة الرصاص.
حتى وأنا أكتب هذا الآن عموماً لا أشعر بأني أكتب بل أنزف وأتوجع وأتألم ولا أستطيع أن أسخر، ولا أستطيع أن أكون مشحوطا كما هو حال مشاحيط الحرب، ولا أستطيع أيضا أن أكون بكامل مشاعري مع أي طرف من هذه الأطراف المتحاربة في البلد الكسير وأعيش أيامي وأوقاتي كلها كأي نازح مشرد من بيته ومدينته في انتظار الخلاص من هذه المحنة التي أعيشها كأي يمني أنهكته الحرب.
غداً عندما يعود السلام إلى بلادي، وأعود إلى مدينتي وحارتي وبيتي وأهلي وناسي، ويخفت صوت البندقية، ويصبح للكلام البسيط الذي يقول للناس بوضوح وصدق أحبوا بلادكم واعملوا على إسعاد أبناء شعبكم، سأعاود الكتابة بشكل مستمر، وأسعد الناس بطريقتي الخاصة، وأصبح مشحوطا كما ينبغي.. وأما الآن فأنا حزين وأفكاري حزينة، وبلادي مدمرة، وإنسان بلادي مرهق ومتعب وحزين.