فهمي الكاشف
لماذا لا يمكن أن تكون "الإمامة" أداة للمشاعر الوطنية؟
اتخذ الحوثيون من موضوع "السيادة" قضية معلنة يبررون بها حربهم على الصعيد الوطني، ولافتة يحجبون تحتها، ما أمكن، قضيتهم المركزية المتمثلة بالإمامة. "السيادة" قضية سهلة الاستخدام، سياسيا ودعائيا، بمعناها المباشر والسطحي الذي يفهمه عامة الناس على أنه حصرا رفض التدخل الأجنبي، دون الخوض في التفاصيل والأسس التي تتحدد بها السيادة أو البحث في تطورات المفهوم وملابساته في عالم اليوم.
غير أن الحوثي، ولأن رسالته الأساسية مذهبية، لم يصب نجاحا كبيرا في توجيه مشاعر العداء ضد التحالف السعودي باسم الدفاع عن السيادة على مستوى اليمن. ونستطيع إدراك مأزق الخطاب الحوثي عندما يتحدث عن السيادة المنتهكة، فهو لا يقتصر على القول إن ثمة تدخلا من دول خارجية.. بل يحتاج إلى الاستدلال بوقائع ومعطيات تبرهن على فشل هذا التدخل، ويحشد قائمة من أخطاء وجرائم التحالف كحوافز أخلاقية للقتال، علاوة على الحافز الديني المذهبي الذي يقع في صلب عملية التعبئة.
أي أن الحوثيين، لكي يصفوا التدخل بقيادة السعودية بأنه "غزو" و"عدوان"، فإنهم لا يكتفون بالإشارة إلى أن أطرافه دول خارجية كدليل ناجز على صدق الوصف، بل يضطرون إلى تقصي النتائج السلبية للتدخل وإضافتها إلى مواد المحاججة أو الإدانة والرفض في الدعاية. وهو ما يعكس أزمة حادة في الشرعية والجدارة الوطنية التي تخولهم ادعاء تمثيل قضية السيادة بمدلولها القانوني المعمول به في النظام الدولي القائم.
بينما يقول التحالف بقيادة السعودية، إنه يخوض الحرب في اليمن من أجل إعادة الشرعية الدستورية بعد الطلب الذي تقدم به الرئيس المعترف به دوليا عبدربه منصور هادي. شكليا، قضية الشرعية تصلح فقط لإضفاء صفة قانونية على التدخل من وجهة نظر القانون الدولي الذي يسمح بتدخلات نوعية في حالات معينة ونزاعات تصنف بأنها تهدد السلم الدولي.
المشكلة أن المفعول التعبوي لقضية شرعية هادي، على المستوى الداخلي، ليس إيجابيا ولا ممكنا. فهي ليست قضية تملك ذلك القدر من الوضوح الشعبوي الذي تملكه قضية مثل "السيادة" بالمعنى السطحي الذي يستخدمه بها الحوثيون في الدعاية والتعبئة وممارسة القمع.
شرعية هادي هي مسألة صعبة الإثبات من الناحية العملية، لانه ضعيف على نحو لا ريب فيه، ولأنه بلا مرتكزات ميدانية محسوسة ولا هياكل عسكرية وسياسية تكن له الولاء. لهذا السبب يصعب الاعتماد على قضية "الشرعية" لبناء خطاب قادر على الإقناع بالقتال والموت في سبيلها. بدلا من ذلك، جرى الاستعانة بقضايا وتبريرات كثيرة غير رسمية، ومتباينة من ناحية ما هو وطني منها، وما هو طائفي أو مناطقي أو جهوي، وما هو إقليمي متعلق بالصراع مع إيران.
إضافة إلى أن مسألة الشرعية، على صعيد المفهوم، يشوبها الغموض واللبس عندما يتم طرحها على السواد الأعظم من الناس في مجتمعات تقليدية لا تتحلى بالنضج السياسي والحضاري الذي يمكنها من التمييز بين الأشياء.
على أن سياسة رفض الأجنبي، التي كانت تتخذ في كل حقبة من تاريخ اليمن شكلا وتعبيرا مختلفا، هذه السياسة تكررت في التقليد الإمامي الزيدي على مدى قرون، ولطالما كانت أداة حاسمة حينما استخدمت في أوقات كثيرة لتأسيس دويلات الأئمة التي كانت تتفاوت الواحدة عن الأخرى من حيث حظوظ التوسع والاستمرار. (هذه الظاهرة التاريخية كفيلة بإلقاء الضوء على استبشار الحوثيين الخفي عند انطلاق التدخل العسكري في اليمن بقيادة السعودية، لأن تدخلا كهذا، من وجهة نظر تاريخ الإمامة، هو العنصر المكمل للوصفة الكلاسيكية الضرورية لتحقيق مشروعهم السياسي في بلد مقطع الأوصال. وكانت غبطتهم الخفية تتنامى على نحو ملحوظ وخصوصا عندما بدأت تظهر مؤشرات قوية على عجز التحالف السعودي عن تحقيق هدفه المعلن. وعلى هذا الأساس بدأوا يستشعرون الضيق حيال الرئيس السابق، وبإلهام من وعيهم التاريخي تحركوا للإجهاز عليه، لأن وقوفه هو وأنصاره ضد التدخل السعودي كان يعني بالنسبة لغريزة الحوثيين اللاوطنية، المشاركة غير المستحقة في الوليمة الإلهية التي تهيأت لهم أسبابها بقدوم الأجانب وحصول الخراب، وذلك وفقا لميراث الأسلاف).
بالطبع، لم تكن تحركات الأئمة تنطلق من حس وطني تحرري بالمفهوم الحديث للوطن وللتحرر. وأشارت كتابات تاريخية إلى استعانة الإمام يحيى حميد الدين بهذه الأداة السياسة حيال الأجنبي، للخروج من مآزقه الداخلية، بعد أن كانت هذه الأداة، قبل ذلك، مطيته في طريقه إلى سدة الحكم التي وصل إليها على أطلال الدولة العثمانية التي طوت الحرب العالمية الأولى صفحتها نهائيا.
ويذكر القاضي الشماحي أنه "عندما بدأت المخاطر الداخلية تهدد تماسك النظام الإمامي، واستمراريته، رفع الإمام يحيى شعار الجهاد المقدس ضد الاحتلال البريطاني للخروج من الأزمة".
وقد علق عبدالعزيز المسعودي الذي استشهد في كتابه "اليمن المعاصر" بالكلام السابق للشماحي: "وكان من الطبيعي أن تصبح الطبقة الحاكمة بطل قضية الجهاد ضد المستعمرين، بعد أن أعلن الإمام يحيى مطالبته من بريطانيا باستعادة محميات عدن كجزء من الأرض اليمنية. لقد وجد الإمام يحيى في مشروع إحياء وحدة اليمن الطبيعي ومقاومة الاحتلال البريطاني في الشطر الجنوبي فرصة ذهبية لاحتواء نشاط المعارضة الوطنية بزعامة العلماء وتعطيله".
لكن للإمامة الزيدية الهادوية أيضا في تاريخها أمثلة أخرى عن انتهاجها سياسة مناقضة لسياسة رفض الأجنبي: فالتاريخ يزودنا بحالات عديدة استعان فيها أئمة بقوى أجنبية لتمكينهم من الحكم أو لترجيح كفتهم في سياق صراع وتنافس العلويين الزيديين على السلطة. مع الأخذ بالحسبان التغيرات التي طرأت على مدلولات كلمة "أجنبي" وما أصبحت تشير إليه في الوقت الحالي مقارنة بمدلولها السابق لنشوء الدولة الوطنية القطرية ذات السيادة.
على سبيل المثال، في نهايات النصف الأول من القرن التاسع عشر قام الإمام المتوكل محمد بن يحيى بالاتصال بالعثمانيين، ودعاهم لإرسال قواتهم إلى صنعاء لفرض الاستقرار ومعاونته على ردع خصومه ومنافسيه. وقبل ذلك بقرنين، على الأقل، كانت قد حدثت اتصالات مشابهة من بعض آل شرف الدين المتنافسين أثناء الغزو العثماني الأول لليمن.
ومن الأمثلة الحديثة، برقية بعثها الإمام أحمد حميد الدين إلى الملك عبدالعزيز ملك السعودية يطلب فيها إرسال طائراته لقصف مواقع ومعسكرات الانقلابيين عام 1955 بقيادة شقيقه سيف الإسلام عبدالله ومعه قائد الجيش عبدالله الثلايا.
ولعل أحدث مثال هو استنجاد الإمام البدر، قبل ستين عاما من الآن، بتحالف عريض كانت تتصدره السعودية بالاشتراك مع بريطانيا العظمى ودول إقليمية أخرى على رأسها إيران في زمن الشاه. الفارق عن التدخل المصري لدعم الجمهوريين، هو أن تحالف دعم الملكيين كان يعتمد استراتيجية التدخل غير المباشر مكتفيا بتمويل معسكر البدر بالاسلحة والأموال وتجنيد المرتزقة إضافة الى الدعم اللوجستي والسياسي الشامل.
هذه الأمثلة، وغيرها مما لم نأت على ذكره، تكشف عن أن الموقف من الأجنبي ليس عقيدة صلبة ثابتة تشهد بوطنية الأئمة الهادويين بمفعول رجعي، بقدر ما كان الأمر اختيارا سياسيا محسوبا، بحيث قد يلجأون إلى عكسه إذا اقتضت الحاجة العملية لذلك.
والمسألة هي أن "الإمامة" الزيدية، بعد كل حساب، لا يمكن أن تكون قاعدة أو أداة للمشاعر الوطنية في بلد متعدد المذاهب والخصوصيات. وحتى لو افترضنا أن موقف الحركة الإمامية المناهض للخارج، يمثل عقيدة أصيلة وراسخة الجذور (وهو ما يتعذر إثباته)، إلا أن هذا العنصر وحده لا يعوض النقص الفظيع في الأهلية الوطنية المرتبط بنظرية الإمامة وتطبيقاتها التاريخية، النقص الذي يتجلى على أوضح صورة إذا نظرنا إلى الإمامة الزيدية في مقابل واقع اليمن المنقسم والحافل بالتنوع.
فما إن تضم دولة ما، كما يقول كارل ماركس، "عدة عقائد دينية متساوية في الحقوق، حتى لا يغدو في وسعها أن تكون دولة دينية من دون أن تمس العقائد الدينية الخاصة، من دون أن تكون كنيسة تدين كل مؤمن بعقيدة أخرى بالهرطقة، من دون أن تربط كل رغيف خبز بالإيمان، من دون أن تجعل من المعتقد هو الرابط بين الأفراد ووجودهم كمواطنين".
وإن المفهوم الفلسفي الحديث، الأكثر عمقا، بحسب ماركس: "يستنبط الدولة من فكرة الكل. إنه يعتبر الدولة بمثابة الجهاز الكبير الذي ينبغي أن تتحقق فيه الحريات القانونية، الأخلاقية والسياسية؛ وفيه يطيع كل مواطن، بإطاعته قوانين الدولة، القوانين الطبيعية لعقله الخاص، للعقل البشري. وهذا يكفي العاقل".