عبدالفتاح الصناعي
الجنوب والدولة ومتاهات شركاء 94
بكل أمانة وموضوعية نستطيع القول بوضوح كامل، إن الجنوب والجنوبيين قدموا مواقف تاريخية عظيمة، للحفاظ على اليمن من التمزق والانهيار بما هو أكبر وأهم من الحفاظ على وحدة 94 بكل ما تمثل من مصالح معقدة بين شركاء السلطة السابقين والحاليين.
حين انطلق الحراك الجنوبي في بدايات صعبة من الجمود السياسي، وتيه أحزاب المعارضة، وانشغال شركاء السلطة في معارك خاصة، بطريقة أو بأخرى قدم الحراك رؤيته السياسية لحل المأساة اليمنية.. تجلى الأمر أكثر وضوحا في التقرير الشهير "هلال باصرة" الذي كان عملاً سياسياً ووطنياً محترماً، لقامتين وطنيتين محترمتين، رحمهما الله جميعاً، كما مثل استجابة لرغبة صالح في معرفة حقيقة الوضع بالجنوب، والحلول المطلوبة والممكنة، وسبب ظهور الحراك كحركة سياسية جديدة، حاملة للمطالب السياسية والحقوقية الجنوبية، وبتعبير وغاية أشمل لإصلاح عام لوضع البلد واجتثاث مخاطر شراكة الفساد، وتقاسم البلاد على أساس استحقاق الحرب، وليس على أساس إصلاحات وسياسات دولة، تعيد ترتيب وضعها وحماية شعبها ومواطنيها من النافذين وتجار الحروب.
وصلت رسالة الحراك مبكراً إلى صالح، لأنه كان على قدر من الذكاء، يريد إدراك الحقيقة كما هي، لم يكن يريد من معدي التقرير الدفاع عنه ولا مجاملته ولا التبرير له كما يعمل هادي اليوم، لكنه اعترف بوضوح بصعوبة تنفيذ توصيات "التقرير"، لأن "التقرير" يوصي باستعادة الحقوق من شركاء حرب 94، وهم شركاء صالح الذين تتصاعد حدة خلافاته وصراعاته معهم لأسباب شخصية ووطنية ربما.
لم يكن يعد صالح كما كان بتحالفه السابق مع بيت الأحمر والإخوان، فالتحالف منذ بدايته لم يكن مستقراً على حال فهو متسارع التطورات والمتغيرات المفاجئة، متغذ على الدماء والمصالح السريعة والمواقف المتقلبة، خاضع لأوجه عديدة من الاحتمالات والمقاصد والأهداف والضرورات.
وعلى كل حال فإن صالح الذي كان واقعاً او محاولاً يعد هو الطرف الذي يمثل الحد الأدنى وأقل الممكن من الدولة والحفاظ عليها ولو شكلا، لربما وجد لنفسه وللطرف السياسي الذي يمثله عدة مبررات واقعية لطريقة تعامله التكتيكية مع الإخوان وبيت الأحمر، بعدم القدرة على مواجهتهم مواجهة فاصلة وحاسمة، كما يتطلب الواقع ويوصي "التقرير"، الذي كان واضحاً بلغة شفافة وجريئة أقرب الى القسوة، لكن تحقق الخيار الأسوأ بأشد ما فيه من قسوة ومرارة، بأن صالح بين خيارين لا ثالث لهما "الحفاظ على البلد، أو الحفاظ على الشخصيات التي نهبت الجنوب" وهي نفسها التي افسدت الدولة وأفسدت كل الثورات، ونهبت الشمال والجنوب والوسط، وتنهب اليوم دول الجوار، وتفسد كل الأحداث والمعارك السياسية الفاصلة وتعيد بها الى مجرد مزايدات ومبالغات..
حدث الشرخ الأكبر، وتطورات الصراعات، وسارت المعركة إلى نهايتها بين صالح والقوى الفاسدة الذي كان بإمكان صالح أن يجتث فسادها، واستقوت بكل الأحداث الجديدة، التي كانت تستهدفها قبل صالح، واخترقت هذه الأحداث لأنها تمكنت قبلها من اختراق الأحزاب والقوى السياسية.. ووجهت خطابها كله ضد صالح، بأنه وحده السبب بالفساد والانهيار والأزمات والحروب بالشمال والجنوب، ونست على الأقل الشراكة التي كانت بينهما..
فهل تتعامل اليوم مع هادي بنفس المنطق التكيكي السابق؟!بالوقت الذي يتعامل هادي بنفس منطق صالح ومبرراته؟!
لسنا مضطرين لإعادة المنطق السياسي القديم، والتكتيكات السابقة، بل الفرصة اليوم أمامنا لقراءتها بعقلية علمية، ونقدها بموضوعية، وتقديم رؤية سياسية حقيقية، وتجربة جديدة ترسم آفاق حلول عملية، لا تعيد الأخطاء وتسير بنفس المتاهات للتجارب السابقة فتصل الى نفس النهايات المؤلمة.
أصطف الجنوب مع هادي بعد صراع سابق_ حيث استهدف هادي الجنوب والحراك بعد صعوده السلطة- للدفاع عن عدن وتحرير الجنوب، ويصطف اليوم الجنوب مع قوى قومية ووطنية شمالية لتحرير الشمال ووأد فتنة الحوثي واستعادة صنعاء، وتفتح عدن قلبها وسواحلها وشوارعها لكل من هو ضد الحوثي..
ألسنا جميعاً متفقين على قضيتين: القضاء على الحوثي، وإعادة بناء الدولة من جديد؟! وإعادة بناء الدولة من جديد يعني بعيداً عن التأزمات والأخطاء السابقة.
هل بناء اليوم دولة أو سلطة جنوبية، على أبعد افتراض، أو بالأقل فهم الحراك والتعلم منه ومحاورته، وإعطاء المساحة الحقيقية والدور الذي هو مهيأ ومؤهل له، وعدم خلق حالة من الانصدامات العبثية غير المبررة، سيؤثر على معركة الشمال؟! أم سيعطي جوا أفضل لاستعادة وبناء دولة صنعاء والبحث عن علاقة سياسية منطقية وموضوعية بين الشمال والجنوب بعيداً عن المزايدات والتشنجات والمكايدات؟!
من بالحاجة والضرورة أكثر لتغيير منطقه السياسي، هل من يطالب بدحض ذهنية وطريقة 94، ويعبر عن ذهنية وتجربة سياسية جديدة، أم من يتمسك بها شكلاً ومضموناً، ويعيد ممارسته الخاطئة من جديد؟!
الحراك على أرضه وقدم، تضحياته لدحر الحوثي، وما زال يقدم لهزيمة الحوثي في الشمال، ومن حقه الطبيعي تمسكه بالمنطق السياسي ضد حلف 94 وذهنيته السياسية التي تعيد ممارسة الأخطاء، والتسلط على الشمال والجنوب، بينما هذه الأطراف تبعتد أكثر عن الواقع، حد الاغتراب، وتتعثر في حروبها ومنطقها السياسي، لأنها تتمسك بالذهنية السابقة، والأساليب القديمة التي أوصلتها الى هذه الحالة من الإخفاق والعجز!
لا أحد يقول أو يدعي، بأن الحراك في حالة من الكمال والتمام، وله كل الحق فيما يدعي ويقول ويزعم ويعمل، لكنه قوة جديدة وحية لها تراكمات نضالية، وأخطاء طبيعية وغير طبيعة، لكن الفرق بين الخطأ والخطيئة، بين الأخطاء الطبيعية والعارضة والأخطاء الجوهرية والمكررة... إعادة تجارب وأساليب سابقة للأطراف الرئيسية التي أوصلت البلد إلى هذا الحال من الانهيار، هو الخطيئة الكبرى التي سوف تغرق نفسها وتغرقنا معها.. بعد أن أغرقت الوطن بكل سفنه وبواخره، ولم يتبق لنا جميعاً إلا قوارب صغيرة فلنعمل على محاولة النجاة بها، بدون أن نلقي عليها كل ثقل أخطائنا فتغرق ونغرق معها وننهي آخر فرصة بأيدينا.
من يقف اليوم مدافعاً عن أخطاء الأطراف الرئيسية وعقليتها السابقة، أو يسكت عنها، فهو مشارك بقتل هذا البلد شمالاً وجنوباً. بهذا الوضع الحساس جداً الذي لم يعد يحتمل النفاق والتسطيح، وإعادة الأخطاء والتبرير لها.
بعبارة أخرى، وبطريقة أوضح، دعونا نفترض، أو نؤمن حقيقة، بكل وضوح بأن للحراك أخطاء كبرى، يحتاج إلى أن يراجعها ويغيرها، فهل من المنطق أن نطالب بالمراجعات والتغييرات، قبل أن نطالب الأطراف الرئيسية التي تتعمق بأخطائها وتعيد أساليبها الفاشلة، وطرقها القاتلة التي مارستها على مدى عقود سابقة، دون أي مراجعات، بعيداً عن أن نقول بأن مثل هذه السياسات الخاطئة هي التي تدفع الحراك وغيره للخطأ والصراع العبثي والعدمي.
لكننا نقول بأننا جميعاً كأطراف سياسية مختلفة، تهمنا هذه المعركة القومية والوطنية، بحاجة للمراجعات الحقيقية، بكل العلاقات والارتباطات الداخلية والخارجية، والسياسات القومية، ولتكن البدايات من الذي تولى كبر هذه الأخطاء من الناحية العامة والمبدئية، ثم نتدرج بشكل طبيعي في نقد أخطائنا جميعاً..
وبالتالي سنكون قادرين على أن نعيد للمعركة الوطنية والقومية قدسيتها، بعيداً عن حالة العبث والتيه والفوضى التي أصابتها.