الحرب تقترب من عامها الخامس، ومع ذلك ما زال الحوثيون يخوضونها باندفاع خبيث يشبه دفقة من الجنون مضطرمة بنار داخلية سوداء لم يَخْبُ أوارها ولم تفقد حتى هذه اللحظة أياً من مقومات بقائها مشتعلة وقادرة على الإتلاف والتخريب.
إنهم يمارسون الحرب كما لو كانت مشهداً من مشاهد النشوة الجماعية العارمة التي تتخللها رقصات طويلة متفجرة، وحشية، موقّعة بالدم. الحرب، بالنسبة لهم، نشاط "مقدس" يستمد بعض هيجانه وحرارته التراجيدية من فكرة عبادة الاستشهاد "الشيعية". يتصاعد هذا النشاط الاحتفالي بتأثير من كل شيء يقع في طريقه أو يتحرك في محيطه المحلي والإقليمي من حوادث وتفاعلات ومن جميع مظاهر الانقسام والفشل الوطني التاريخي.
لديهم تلك الدفقة الشعرية الغنائية الإجرامية، والتي تفصح عن نفسها في شكل من الحماسة الهائلة التي يمكن الإحساس بها من خلال الأهزوجة الحربية وفن "الزامل" العريق الذي استطاعوا أن يدفعوا طاقته التعبوية القتالية إلى الأقاصي، بعد أن قاموا بتضمينه لوناً من الشعر التحريضي الذي يعتني بتمجيد الشجاعة والتحدي واحتقار الموت والتنويه بالنسب المتفوق للقائد.
غير أن ما يبقي على هذه الدفقة الشعرية الجهنمية متوقّدة ومشحونة بالانفعالات السامّة، هو أنه لا يوجد على الضفة الأخرى من الصراع، دفقة واحدة مشابهة لها، توازيها أو تعادلها أو تزيد عليها، وزناً وقوّةً. وإن وُجِدتْ، فإنّها دفقات مجزّأة، باهتة وهزيلة!
في النقاط التالية تلخيص لأبرز المصادر التي تتدفق منها القوة المعنوية للحوثيين:
1- هناك أولاً الفشل الفاضح للرئيس هادي، وضعف شخصيته، وإسهاماته الشهيرة في المسار الذي قاد إلى سقوط العاصمة بيد الحوثيين كنتيجة لعدم وجود إرادة وطنية بالتزامن مع "انحلال خلقي عام"، الأمر الذي أدى في الأخير إلى الانهيار المرعب للدولة.. إضافة إلى استمرار إقامة هادي خارج اليمن بوصفه دليلاً ساطعاً على انتفاء شرعيته من ناحية عملية.
2- انقسام وتفكك وتعدد أجندات الأطراف التي تقاتل الحوثي تحت المظلة الاسمية للتحالف بقيادة السعودية والإمارات بالمقارنة مع وحدة الجبهة الحوثية على مستوى القيادة والخطاب والهدف.
3- المحتوى (الطائفي/ الجغرافي/ المناطقي) الفاقع الذي قامت عليه كثير من التشكيلات المسلحة المشاركة في القتال ضد الحوثي. ورغم أن الحوثي في جوهر حركته يتكون من محتوى مذهبي وامتياز سلالي ناهيك عن البعد المناطقي، إلا أنه يبدو أقدر منهم (قليلاً فقط، وأشدد على كلمة قليلاً) على تمويه هذا المحتوى تحت طلاء رقيق من الوطنية الرديئة والمنقوصة كليّاً، لكنه طلاء لا يخلو من نفع سياسي ودعائي يثير التباساً وتضليلاً، وخصوصاً في مناطق القبائل المكسورة والمستباحة.
4- هناك أيضاً موضوع التدخل الخارجي، والذي تصرفت أطرافه، منذ البداية، بطريقة خاطئة أطالت أمد الحرب وجعلت من السهل تصوير تدخلها كغزو وعدوان على اليمن، في مقابل تصوير الحوثيين لأنفسهم في دور الحركة المنافحة عن السيادة والتحرر الوطني بخطاب ديني على نحو مشابه تقريباً لنموذج حركة الشباب الصومالية المتشددة وحركة طالبان في أفغانستان.
5- اتخذت الأحداث، بشكل عام، منحى كارثياً مشؤوماً، وهو ما هيّأ لأيديولوجية الحوثيين المناخ الداخلي والإقليمي الذي تستطيع من خلاله دعم حججها وشعاراتها وبما يساعد على استقطاب مقاتلين وأنصار عبر إضافة الشعور بعدالة القضية إلى جانب حافز المصلحة الخاصة.
6- علاوة على هذه المصادر، التي تعمل إما مجتمعة أو فرادى، هناك أيضاً التوابل الأخرى المضافة إلى الخلطة: العداء لإسرائيل وأمريكا كأيديولوجيا شعبوية للحوثيين تفصح عن نفسها بالتناغم مع اتجاه السياسة الرسمية لما يسمى بمحور الممانعة وعلى رأسه إيران، الذي بات ينظر إليه في مقابل محور السعودية والذي يضم بالضرورة الحكومة اليمنية برئاسة هادي، وهو المحور الذي يتحول تدريجيا نحو الاعتراف بإسرائيل والتعامل معها بشكل طبيعي.
7- وبالطبع، هناك المصدر الأساسي الذي يلهب حماسة ومعنويات النخبة العلوية الهاشمية، وهو المصدر الذي يقع في مركز خطوط ومصادر الدعم النفسي الأخرى، ونقصد به العطش البهيمي للسلطة بالاعتماد على الدعوة الجهادية التقليدية لإعادة تنصيب الإمامة الهادوية من جديد بعد انقطاعها منذ 1962.
8- ويجد الحوثيون العون من عوامل انقسام اجتماعي في النطاقات الفرعية، وهو ما يعطي مجالاً خصباً لممارسة الاستقطاب المدجج بمستويات متعددة من الخطاب وأساليب الإقناع التي تمزج بين اعتبارات "وطنية" منتقاة بعناية جنباً إلى جنب مع الاعتبارات الخاصة، الشخصية أو القبلية أو العائلية.