كل الوقائع تقول إن الجماعة الانقلابية في صنعاء مزقت اتفاق ستوكهولم، وأكثرها تجزم أن الأمم المتحدة تسكب الزيت على نار الحرب.
سيكون تكراراً بلا داع استعراض ما سبق الحديث عنه منذ زحف المليشيات على صنعاء ووضع الرئيس عبدربه منصور هادي رهن الإقامة في وجود أول مبعوث خاص للأمين العام إلى اليمن جمال بنعمر، ويكفي النظر في أداء المبعوث الحالي مارتن جريفيث لكي نضع علامة استفهام كبيرة أمام ممارسة المنظمة الدولية مسؤولياتها حيال السلام والوضع الانساني في هذا البلد كما في بلدان عديدة منذ كفت عن أن تكون ضمير البشرية كما اريد من إنشائها.
في بداية مهمته، عجز جريفيث عن جمع الأطراف بسبب أعذار تحجج بها الحوثيون حتى نزل عند مطلبهم ونقل وفدهم في طائرة خاصة رغم أنهم هذه المرة كانوا سيقبلون الاجتماع في أي مكان ويحضرون فوق أي وسيلة فقد كانت القوات الحكومية تقتحم الحديدة من أطرافها وتقبض على المطار وتقترب من الميناء.
لقد تدخلت الأمم المتحدة والقوى الكبرى بشكل سافر ووضعت الحكومة الشرعية أمام خيارات صعبة إذا لم توقف معركة الحديدة.
والمعلن هو الخوف من إلحاق دمار كبير بالمدينة ومن «خيار شمشون» الذي هدد به الحوثي بخصوص الميناء.
ولم يكن هذا صحيحاً بالمطلق فإن حجم الضحايا والأضرار في البلدات والأحياء المحررة يقدم الدليل القاطع على أن القوات تخوض الحرب باحتراف وحرص على الأرواح والممتلكات، وكان التهديد بعقاب قاس خياراً يمنع تنفيذ التهديد بتدمير الميناء.
هكذا استردت الميليشيات الأنفاس وحشدت التعزيزات وسافر وفدها إلى السويد، وهناك أظهرت القطيعة بين الوفدين حجم الشرخ الذي سببته الحرب في المجتمع، لكن الأخطر أن ما جرى هناك لم تكن مفاوضات وإنما مشاورات بحسب ما أعلن المبعوث الأممي قبل ذلك، فالمشاورات لا تعني أكثر من استكشاف وجهات نظر الأطراف والوقوف على طبيعة وحجم الخلافات حتى تبنى عليها رؤية وتصور لكيفية المقاربة في جولة مفاوضات لاحقة يجري فيها الاتفاق على القضايا واحدة واحدة قبل أن تكتب في صيغة قانونية.
ما حدث أنه وسط التباعد والاختلاف فاجأ المبعوث الأممي الوفدين بمشروع اتفاق أعده في غرفة مغلقة بعيداً عن أجواء النقاش، وربما أن المشروع كان جاهزاً قبل أن يحزم اعضاء الوفدين حقائبهم ويستقلوا الطائرات إلى ستوكهولم، والأرجح أن صدمة المفاجأة أصابت الوفد الحكومي وحده، وذلك جعله يرفض الخضوع للإملاء ثم لم يمنح الموافقة إلا بعد تلقيه أوامر صارمة من القيادة السياسية بناءً على ضغوط أو وعود من المبعوث الخاص ومن وزير الخارجية البريطاني وحكومات الدول الراعية.
غير أن وفد الحوثيين لم يفاجأ إذ سبق له العلم وإن أبدى امتعاضاً مفتعلاً، وأظنه كان قد درس الثغرات التي تفتح أمامه أبواباً للتفسير والتملص.
إحدى الثغرات تذكر بالدهاء البريطاني في صياغة قرار مجلس الأمن 242 بعد عدوان 1967 ذلك النص الشهير بانسحاب «إسرائيل» من أراض عربية وليس من الأرض العربية التي احتلتها في ذلك العدوان، هنا في الاتفاق الخاص بالحديدة نص على تسليم إدارة السلطة المحلية والموانئ إلى موظفين بموجب القانون اليمني.
وما تفهمه الحكومة أن القانون يلزم بعودة الموظفين المعينين من الحكومة الشرعية قبل انقلاب سبتمبر 2014، فيما يتشبث الحوثي بأن المعنى ينصرف إلى المعينين من قبله.
لقد مضت ثلاثة شهور وانقضت المدد المحددة لتنفيذ بنود الاتفاق، لكن الجماعة الانقلابية ماطلت ولم تلتزم، تعثرت عملية إعادة انتشار القوات ما جعل رئيس لجنة المراقبة الجنرال الهولندي باتريك كامرت، يتخبط في لجاجة مغالطة الانقلابيين الذين لم يتوقفوا عن قصف القوات الحكومية والأهداف المدينة على خطوط وقف النار، بل وأفشلوا تنفيذ البند الخاص بتبادل الأسرى والتفاهم حول تعز المحاصرة واستمروا في اعتقال المدنيين، وقصفوا صوامع الغلال ومنعوا رجال الإغاثة من الوصول إليها ونقل محتوياتها إلى المحتاجين.
كما شنوا حرباً ضروساً على مديريات حجور، وبعد أن اقتحموها نفذوا حملة إعدامات واعتقالات وتدمير للمنازل.
أمام كل هذا لم ينطق المبعوث الخاص وغيره من المسؤولين الأمميين وكرروا دائماً الاسطوانة المشروخة بالتعبير عن الأمل في أن تلتزم الأطراف بوضع الاتفاق موضع التنفيذ والعمل على تسهيل إيصال الأغذية والمواد الإغاثية للمحتاجين وغير ذلك من العبارات المطاطة التي تنحي باللائمة على البريء وتتستر على المذنب.
يتبين من هنا أن الأمم المتحدة لا تعمل من أجل إحلال السلام، وإنها لا تظهر بأنها تمثل عنواناً للفشل فقط، بقدر ما يتأكد من سلوكها أنها تقوم بدور مشكوك في أمانته ونزاهته.
وإذا ما كان الحوثيون قد مزقوا اتفاق ستوكهولم، فإن أخطر ما يُخشى منه أن المنظمات الدولية تخدم مخططاً مشبوهاً لدول كبرى يستهدف تمزيق اليمن.
إن هذا يلقي بمسؤولية تاريخية على القيادة الشرعية وعلى القوى الإقليمية بأن تتنبه وتستيقظ وألا تخضع للابتزاز، وإلا فإن الكارثة لن تصيب اليمن وحدها.
* نقلا عن صحيفة (الخليج)