د. صادق القاضي
على مرايا السنة والشيعة والصراع الإقليمي!
إذا كان لا بد من اختزال فلسطين، بالأماكن المقدسة، ومن ثمّ التعامل مع القضية الفلسطينية كقضية دينية طائفية على الصعيد الإسلامي، فـ"أهل السنة" أولى من "الشيعة"، بتبني هذه القضية بإخلاص، أو حتى لمجرد المزايدة الانتهازية بها في الصراعات الإقليمية.
قداسة القدس تكاد تكون خصوصية سنية خالصة، متمحورة حول "المسجد الأقصى" المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى الرسول الكريم.
في التراث الشيعي "المسجد الأقصى" لا يوجد في الأرض، بل في السماء، أمّا ما يسمى كذلك في القدس فهو مسجد عادي، حتى إنه أقل قدسية من "مسجد الحسين".
كذلك الأمر بالنسبة للقدس، فقم والنجف هي أماكنهم المقدسة التقليدية، حتى إنها، على الأقل في بعض السياقات، أكثر قداسة من الكعبة والمسجد النبوي في مكة والمدينة.
إذاً، ما الذي حدث، بحيث يبدو أن المشهد قد انقلب رأساً على عقب، قياساً بالمفترضات المرجعية للسنة والشيعة، تجاه القدس والقضية الفلسطينية؟!
اليوم المكونات الشيعية تزايد على الكيانات السنية بقداسة القدس والمسجد الأقصى، والصراع الإقليمي بين دول "الممانعة والمهادنة"، يوحي أن الشيعة لا السنة هم من يتبنون القضية الفلسطينية كقضية عقائدية!
بل يبدو أحياناً أن الدول السنية، الخليجية بالذات، متواطئة مع إسرائيل على حساب المقدسات والحقوق الفلسطينية، وأن العلاقات التطبيعية بينها وبين إسرائيل.. ينقصها فقط مجرد الخروج إلى العلن.!
على الأقل هذا ما تحاول "البروباغندا الإيرانية"، تكريسه في الوعي العام العربي والإسلامي، في سياق إشكالية طويلة معقدة بدأت بوصول "الثورة الإسلامية" إلى السلطة في إيران 1979م.
لم تكن القضية الفلسطينية تهم الإمام الخميني أكثر مما كانت تهم الشاه محمد رضا، لكن نظام الخميني بطبيعته، لم يكن يمتلك مبرراً منطقياً لبقائه، ولا مشروعاً عملياً لشعبه، ولا أرضية موضوعية للتعامل مع محيطه الإقليمي والدولي.
وكما هو جدير بنظام ثيوقراطي من هذا النوع، سرعان ما قام هذا النظام بصناعة الأعداء وتصدير الأزمات، وتبني شعارات فضفاضة وقضايا زائفة لكبت الداخل، وممارسة نزعته التوسعية في المنطقة.
منذ البدء كان المرشد الإيراني يتحدث عن المقدسات الفلسطينية وعينه على العواصم العربية السنية، بداية ببغداد، وحسب عبارته حينها: "الطريق إلى القدس يمر عبر بغداد".
بعدها توجهت إيران للبحث عن طرق أخرى تؤدي إلى القدس، ونجحت في وقت مبكر بالوصول إلى لبنان، وتكبيل القرار هناك، وجعل بيروت حديقة خلفية لقصر "آية الله" في طهران.
ومن بيروت صرح السيد "حسن نصر الله": "الطريق إلى القدس يمر عبر القلمون والزبداني ودرعا وحلب".!
هذه السنوات الثورية الأخيرة بالذات مكنت إيران من التدخل بل والدخول بشكل أعمق ومباشر في سوريا، بحجة دعم نظام الأسد حليفها التقليدي، أو بحسب عبارة حسن نصر الله: لأن "سوريا محطة في الطريق إلى القدس".!
على الصعيد اليمني، صرح "علي أكبر ولايتي" مستشار خامنئي بأن "الطريق إلى القدس يمر عبر اليمن"، وبسقوط صنعاء بيد أقلية من الأقلية الشيعة صرحت إيران أنها باتت تسيطر على أربع عواصم عربية.
العملية، إذاً، ذرائعية خالصة، أشبه بحصان طروادة، كان أهل طروادة يقدسون الأحصنة، كما يقدس السنة المسجد الأقصى، وفي الحالتين تم تفجير الخصم من الداخل بنفس الطريقة.
نتحدث هنا عن تجربة عملية تمتد لأكثر من أربعة عقود، وتؤكد بأكثر مما ينبغي أن النظام الشيعي في إيران استثمر بشكل انتهازي القداسة العالية التي يحملها جيرانه السنيون، للقدس، وإيمانهم العميق بعدالة ونزاهة القضية الفلسطينية.
تصل المزايدة حد الابتزاز، كما لو كان على الأطراف السنية على الأقل أن تلتزم الحياد تجاه "المشروع الإيراني"، ما لم فهي بالضرورة ضد تحرير المقدسات، وربما على تواطؤ مع الصهيونية العالمية.!
الأسوأ أن الأطراف الأخرى، السنية، خضعت مراراً وطويلاً، وعلى كل المستويات، لهذا الابتزاز المنهجي، وانخرطت بوعي أو بدون وعي، وراء إيران في هذه اللعبة، لمجرد المجاراة أو إثبات الشرف والغيرة وحسن النوايا..
تم ذلك أحياناً على حساب ملامح ومشاريع، وطقوس سنية عربية خاصة تجاه القضية الفلسطينية، كالاحتفال بـ"يوم فلسطين" أو "يوم الكرامة" في شهر أكتوبر من كل عام، تخليداً للانتصار العربي على إسرائيل في "حرب الكرامة".
تخلى العرب عن الاحتفال بهذا اليوم العربي، وباتوا يحتفلون بـ"يوم القدس"، اليوم الذي اخترعه الخميني، بدلا منه، كمثال رمزي لفرض النظام الإيراني قراءته ورؤاه وطقوسه للقضية الفلسطينية، على العالم العربي، خلال سحب القضية الفلسطينية من أيديهم، بل ورفعها في وجوههم ضدهم.
من نافلة القول إن للقدس قداستها العالية في الديانات الإبراهيمية الثلاث، وللقضية الفلسطينية شعبيتها العارمة في الأوساط الإسلامية، سنة وشيعة، ولدى غير المسلمين على امتداد العالم، كقضية حقيقية حقوقية إنسانية عادلة.
لكن اللعبة في العالم الإسلامي أكبر من قداسة القدس والقضية الفلسطينية، وتتم على حسابهما، كمطايا براجماتية للوصول إلى أهداف لا علاقة لها بتحرير الأرض أو استعادة الحقوق، أو استرجاع المقدسات الدينية.
حتى مصطلحات الممانعة والمهادنة، تعبر عن تكتلات القوى الإقليمية في الصراع العربي الإيراني، أكثر مما تعبر عن الصراع مع إسرائيل.