محمد عبدالرحمن

محمد عبدالرحمن

"البردوني" الاستثناء اليمني.. ماذا لو كان قد ولد على ضفاف نهر النيل؟!

Sunday 10 May 2020 الساعة 10:01 pm

أثناء الانهماك في قراءة بعض الشعر للبردوني تبادر إلى الذهن سؤال أوقف الحركة الذهنية في تلك اللحظة لعقلي، وهو ماذا لو ولد ونشأ عبدالله البردوني في مصر، وكان مصري الولادة والجنسية ببراعته وفطنته وذكائه الذي سحقه المجتمع والانغلاق الذي مارسه الحكم الإمامي في صنعاء..؟!


عندما ولد عبدالله البردوني في "الحدا" إحدى نواحي مدينة ذمار في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، في ظل حكم الإمام يحيى، كانت اليمن تعيش في الواقع المنسي من جعرافية العالم، لا نظام تعليمي ولا صحي، وكان البردوني لا تزال عيناه تلتقطان صور الحياة قبل أن يفقد النظر بسبب مرض الجدري وهو في سن الخامسة من عمره.


في ذلك الوقت كانت مصر تشهد ثورتها الثقافية والتعليمية والسياسية، وكانت الملكية في مصر تختلف تماماً عن الأئمة في اليمن، ولأن العمى في سن مبكرة وحدة مشتركة بين البردوني وطه حسين الذي ولد قبل البردوني بثلاثين عاماً، واتجها في بدايات تعليمهما من المساجد والتعاليم الدينية، التحق طه حسين بالأزهر الشريف والتحق البردوني بالمدرسة الشمسية، وشتان بين المدرسة الأولى والثانية.


الأزهر الشريف كان البديل الأنسب للبردوني، والبوابة الأكبر التي كان سيدخل منها إلى فضاء المعارف والعلوم، ولأنه شغوف بالعلم ويمتلك ذكاءً حادا، على الرغم من عاهته الأبدية الشكلية، كان سيرفض أن يتوقف بالأزهر، ولأن مصر أصبح فيها أول جامعة في الوطن العربي كان ذلك فرصة لأن يلتحق بالجامعة وينتهل من مختلف المعارف والأدب، كما كانت خطوات طه حسين الذي تمكن من إنجاز أول دكتوراه في الجامعة وذلك في العام 1914م. 


لكن وبسبب نظام الأئمة الذي عمد إلى أن يبقى المجتمع متخلفاً زاهداً في حقوقه التعليمية، اكتفى البردوني أن يبقى في المدرسة الشمسية طالباً للعلم ومحامياً للمطلقات في شبابه كما ذكر ذلك بنفسه، أحاطت به جدران الواقع اليمني المتخلف والمنغلق على نفسه، لا جامعات ولا مدارس، وأعتقد أن في منتصف اربعينيات القرن الماضي لم يكن يدرك البردوني ما هي الجامعات وما هي وظيفتها. 


لو ولد البردوني مصرياً لكانت باريس أو لندن إحدى وجهته للتعليم في ذلك الوقت، ولمنحته مصر الإمكانيات للسفر كما فعلت مع طه حسين، لكن أقصى ما تحقق للبردوني هو أن يسافر إلى صنعاء راكباً بغلة عرجاء تحت رقابة أعين الإمام.


ولأن الأئمة حرّموا الفلسفة والمنطق والعلوم التجريبية، تقوقع البردوني في نظم الشعر، وأطلق أشرعة سفينته في بحوره ناقداً وساخراً وعاشقاً لعينيّ أم بلقيس، كان ذلك أقصى ما تقدمه صنعاء لضرير يرى العالم المسجون في جوفه بقضبان من الفولاذ، في الوقت الذي لو كان في القاهرة لكان أستاذاً و محاضراً في الأدب أو الفلسفة أو المنطق في الجامعة، ولكان ركيزة أسياسية في التغيير وصوته المسكون بالقومية والحرية. 


لو كان البردوني مصرياً، لم يكن سيتردد في السير بنفس المنهج الذي اتبعه طه حسين، المناداة بمجانية التعليم، والدخول في المعترك السياسي والحزبي، والمشاركة في الانفعالات الجماهيرية التواقة للحرية وإسقاط الاستبدادية، لكنه صنعائي حاصرته حروب وجوع وأضاعته بين التخلف ومحاولة كسر الجمود في العقلية اليمنية القبلية، لا تعليم ينادي بمجانيته ولا أحزاب يتحرك في السياسة من خلالها، ولا حرية لامست قلبه وعينيه.


لو كان البردوني مصرياً كانت له مؤلفاته في الأدب والفلسفة والمنطق، وكانت له مناظراته وصالوناته الأدبية، وكان له حضوره العربي كرائد من رواد التغيير في الأدب العربي، لكنه يمني اعتنق الشعر ديناً وسلبته بلاده مفاتيح قيده، وكسرته بالانغلاق وخوف التغيير، وأحاطته بسياج عمل على تعميق جرحه اليمني، ليبقى ضوء البردوني يمنياً بلا جواز إلا ماندر حضوره عربياً.


للبردوني مؤلفاته الأدبية والشعرية، لكنه منغمس أكثر في الأخيرة، فهو شاعر أكثر مما هو أديب، فلسفته الشعرية مدرسة بحد ذاتها، عميق الثنائي والترادف، شعره القصصي المسكون بسلاسة القراءة وصعوبة الحفظ، لن تنجب اليمن أفضل منه وأغزر منه وأعظم منه.


البردوني ضرير استثنائياً، ولد يمنياً في عهد الإمامة الكهنوتية، لو كان مصرياً في ذلك الوقت لكان استثنائياً عربياً شاعراً وأديباً وفيلسوفاً ورائد تغيير في الأدب والفكر العربي. 


لأن مصر كانت من أول الدول العربية التي ساد فيها التعليم الأساسي والجامعي وكان في البداية أهلياً، ثم بعد ذلك تحول التعليم إلى عام، ومقارنة مع وضع عميد الأدب العربي طه حسين في ذلك الوقت وخطواته في بناء ذاته وضعت البردوني في مساره، رغم علتهما الدائمة، ولو تحقق للبردوني كل الإمكانيات والواقع الذي تحقق لطه حسين، في اعتقادي كان سيتجاوزه بكثير.. رحمهما الله جميعاً.