د. فاروق ثابت

د. فاروق ثابت

في ذكرى رحيله الثانية: "باصرة" الإنسان

Friday 20 November 2020 الساعة 08:54 pm

من أين أبدا وماذا أقول للحديث عن الدكتور صالح باصرة، ونحن اليوم نصادف ذكرى رحيله الثانية..

فمنذ أن كان رئيسا لجامعة صنعاء وحتى صار وزيراً في حكومتين متتاليتين في عهد الرئيس صالح، وحتى قبل وفاته ربطتني به ذكرى ومواقف واحداث جمة حيث عملت معه بمكتبه بجامعة صنعاء كسكرتير صحفي، ثم انتقلت معه للعمل في وزارة التعليم العالي بذات العمل، وقد زار ماليزيا مرات متتالية خلال عمله بالوزارة وبعدها التقيت به خلالها كثيراً.

لا أريد الخوض في مآثره الوطنية، فأعماله تخلد ذكراه، ولكنني سأتحدث عنه كإنسان.

وفي موقف لن أنساه مهما حييت، بعدما أمر الدكتور صالح إدارة جامعة صنعاء التعاقد معي كصحفي كان حينها رئيساً للجامعة، مر شهران فقط من بدء العمل وتوقفت مستحقاتي الضئيلة كمتعاقد، ذهبت لمراجعة شؤون الموظفين فردوا أنهم نفذوا توجيه أمين عام الجامعة حينها عبدالكريم داعر، كان رمضان حينها، ذهبت إلى مكتب داعر لأستفسر عن الامر وقد صورت توجيه باصرة واحضرته معي.

وبمجرد أن أدخل الموظف اسمي بورقة موضح عليها الغرض من طلب لقاء الاخ أمين عام الجامعة عاد الموظف ليعتذر بحجة أن داعر لديه اجتماع، فيما كان عادل العصيمي رئيس قطاع طلاب المؤتمر بالجامعة خرج للتو حينها من مكتب أمين الجامعة ليخبرني انه ليس لديه أحد في المكتب، عدت لألح على الموظف بأنني لن أمضي أكثر من دقيقة فقط وان الدنيا رمضان ولا استطيع العودة مرة أخرى، فقال لي مدير مكتبه، "لا ترجع نهائيا موضوعك انتهى" بشكل مستفز.

قلت له: هذا الأمر ليس شأنك. ورد عليّ بعنجهية وتشاجرنا، وفجأة انفتح باب المكتب وصاح داعر: "من هذا؟". فقال له هذا الصحفي، فدعاني داعر، وقال لي: "مابش عندنا تعاقدات، موضوعك انتهى، ما نشتيش صحفيين، رح لك من هانا الله يفتح عليك"، ولم يدع لي فرصة للحديث، وطردني من مكتبه للأسف.

خرجت مقهوراً، وتواصلت بالدكتور صالح مباشرة، فغضب وقال رد عليك وتصرف معك كذه؟ قلت نعم. فقال: عيب ما يجوز يسوي كذه.

قال: ما تقلق تعال غداً الساعة التاسعة والنصف مساء إلى منزلي أنت معزوم عندي نخزن سوا، فوافقت رغم تحرجي من الأمر، بمجرد وصولي منزله في مذبح والذي يقطنه باصره إيجار من مسؤول سابق هو الدكتور ناصر العولقي، كان الكلام عند البوابة بإدخالي فوراً حينما أصل، دخلت وانا احمل علاقي قات بسيط وصغير لأني فكرت بأن لا أطيل الجلوس فقط انفذ رغبة باصرة بالمجيئ ثم أغادر.

عند دخولي الديوان بهت وأنا أرى كل مسؤولي جامعة صنعاء في المقيل بينهم الدكتور خالد طميم نائب رئيس الجامعة لشؤون الطلاب حينها، والدكتور احمد الكبسي نائب رئيس الجامعة للشؤون الاكاديمية، وايضا الأمين العام عبدالكريم داعر كان حاضراً، وعمداء كليات ومدراء ادارات في الامانة العامة وكذلك مسؤولون من التعليم العالي، وكان الديوان ممتلئا ولم يعد فيه مكان لأجلس سوى بالقرب من الباب، فسلمت بمجرد ظهوري على الباب فالتفت نحوي باصرة ورد السلام علي بصوت عال، ليرد علي كل من في الديوان بصوت أعلى ثم قام باصرة من مكانه واتجه نحوي وانا في الباب وسحب يدي واجلسني بمكانه، رفضت لكنه حلف والله، فشعرت بإحراج، ولم ادر ما افعل الا انني اصررت على رفض الجلوس، وفي ذات الوقت قام كل نواب الجامعة ثم كل من في الديوان وكانوا بالقرب من مكان باصرة وكل واحد يقول للدكتور صالح لا لا خليه يجلس بمكاني، شعرت مدى الاحراج في عيونهم، فيما داعر كان مذهولا مبهوتا وهو يحدق نحوي، يعاود النظر بعينيه لي مرارا وربما غير مصدق بأنه هذا الشخص ذاته الذي طرده من مكتبه بالامس واخبره بأن الجامعة ليست جمعية خيرية له.

جلست أخيراً بين باصرة والدكتور خالد طميم بعد ان كان افسح لي بجانبه وازال متكأ مجلسه لاجلس بقربه.

وبمجرد جلوسي وإذا بباصرة يأخذ قاته المطول ويطرحه كله أمامي، ثم يقوم، كل الموظفين يرمون قاتهم لي بصورة اخجلتني اكثر، فيما انا احلف انه لدي قات واعرضه لهم لكن دون جدوى، فمناديل القات تتطاير نحوي من كل جهة في الديوان، وداعر انزل نظارته وهو يشاهد الي والى الديوان وهو مقلوب.

دقائق بعد أن هدأ المقيل باصرة يصيح: "كيف العمل يا فاروق، أنجزت ملف المشاريع اللي حولتها لك؟!"، ثم يتابع بصوت عال: هذا سكرتيري الصحفي، وداعر مسمر عينه ناحيتي، واستحيت أن اتكلم عما حصل لي منه رغم انها كانت فرصتي، قلت لباصرة: العمل على ما يرام وكل شيء ماشي.

مرت ساعة تقريباً وألمحت لباصرة للإذن لي بالذهاب، وقال اجلس اشتيك، فواصلت المقيل وطال الوقت وكان قد غادر الكثير ولم يبق سوى قلة بينهم أمين عام الجامعة عبدالكريم داعر بجانبي بعدما قام طميم، واذا بداعر يمد لي ورقة حوالة بنحو 25 ألف ريال، قال لي مصروف رمضان والح عليّ اخذها، ثم قال "وجهتها إلى عند الاخ خالد الثور مدير حسابات شؤون الطلاب سر استلمها فوراً وقد تواصلت به لا يأخرك"، والمعلوم ان المعاملات المالية في حسابات الادارة تحتاج اشهرا لانجازها ومعظمها تضيع ولا يتم صرفها، اذا ما ذهبت الى الشؤون المالية للامانة العامة، وقال داعر تعال غدا مكتبي الساعة 12 ظهراً وعلى وجهه ابتسامة خجولة، بمجرد وصولي ادخلني مدير مكتبه بكل احترام، وقف الامين العام لي ولم يدعني اجلس وهو يمد صورة التعاقد مطبوعة لأوقعه، وقال سر سلمه لشؤون الموظفين يكملوا بقية الإجراءات قد الأصول والإجراءات جاهزة عندهم.

التصرف الذي فعله الدكتور باصرة كان إنسانيا وذكيا للغاية ورد فيه اعتباري أمام كل موظفيه، وأيضا أعادني للعمل بصورة أقوى، وأوصل رسالته لداعر بطريقة قوية دون أن يسأله عما حصل معي، بل وكانت الرسالة للجميع، وهذا موقف بسيط من مواقف باصرة في التعامل مع الموظفين، فهو رجل منصف، لا يهين أحدا ولا يتسلط على أحد وإن رأى موظفا فاسدا لا يتسرع بإجراء العقاب قبل ان يحاول اصلاحه ويترك له فرصة ليراجع نفسه.

هناك مئات المواقف الإنسانية للدكتور صالح باصرة حصلت أمامي سواء معي أو مع غيري سواء في الجامعة او في الوزارة ولا يكفي مقال واحد لسردها، واكتفيت بهذا الموقف لانني تقريبا لم ولن انساه ما حييت.

الرحمة والخلود للدكتور صالح باصرة.. انا لله وانا اليه راجعون.