ليس جديداً على اليمنيين توقيع اتفاقات لحل نزاعات السلطة، وغالباً ما تتم بوساطات خارجية، ليعلن بعدها عن الإعجاب بـ "الحكمة اليمانية".
ونشهد التعبير عن الابتهاج بنجاح المساعي، لكن سرعان ما تخبو كل هذه المشاعر لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، يتغافلون عنها بمظنة أن ترحيل التفاصيل، يمنحهم فرصة التأثير على بعضهم الآخر، كما أنهم لا يرون في الاتفاقات أكثر من مجاملة وتهرب ومماطلة وكسب للوقت.
وبالعودة إلى تفاصيل ما جرى قبل التوقيع على (اتفاق السلم والشراكة الوطنية) في 21 سبتمبر (أيلول) 2014، فإن المفاوضين من جانب "أنصار الله"، كما سماهم الاتفاق، وكذلك المفاوضون من جانب الحكومة القائمة في صنعاء، بعد أن اتفقوا على كل بنود الاتفاق بعد أيام طويلة من المفاوضات توقفوا عند نقطة البدء، ولكن ممثلي الحوثيين لم يظهروا جدية بالشروع في التنفيذ.
وبحسب ما ذكره الدكتور الراحل عبدالكريم الأرياني، فقد تم التواصل رسمياً بالمسؤولين في سلطنة عُمان لإبلاغهم بمجريات الأمور، فقاموا بدورهم بالاتصال بالحكومة الإيرانية، التي مارست ضغوطاً على الحوثيين للقبول بما اتفق عليه المفاوضون.
وعلى الرغم من هذا، فمن الواجب الاعتراف والتذكير بأن كل تفاصيل الاتفاق كانت يمنية بامتياز وجرى بحثها داخل اليمن وجهاً لوجه من دون وسطاء.
وندرك اليوم بوضوح أن الحوثيين لم يماطلوا في التوقيع إلا لكسب مزيد من الوقت لإنجاز الاستيلاء على العاصمة في يوم التوقيع نفسه، الذي جرى في (دار الرئاسة) بحضور الرئيس هادي الذي دخل إلى القاعة وبرفقته ممثلو "حركة أنصار الله - الحوثيين" والسيد جمال بن عمر مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، وكان في انتظارهم منذ الصباح قادة الأحزاب اليمنية، في حين كان اللواء علي محسن الأحمر، قد وصل إلى الرياض بعد أن قامت الحكومة السعودية بتأمين خروجه من صنعاء، لأنه كان هدفاً محققاً للحوثيين.
بعد التوقيع على "اتفاق السلم والشراكة"، كتبت في صحيفة الشرق الأوسط مقالة بعنوان "وهم السلم والشراكة في السياسة اليمنية"، وقلت فيها، "كامل كيان الدولة تهاوى، وسقطت قيمتها المعنوية والمادية أمام الضربات المتلاحقة من المتضررين لخروجهم من المشهد السياسي والراغبين في استعادة أدوارهم، وكذلك من ضعف القابعين حالياً على قمته، وأيضاً رغبات وجشع القوى السياسية وابتعادها عن المصلحة الوطنية.
وليس مستغرباً تواري ما تبقى من مؤسسات الحكم المتهالكة أصلاً بعد عقود من التهميش لدورها وضرب قواعدها، وزاد الأوضاع سوءاً ارتباك الحكم الجديد ومحاولاته الخجولة للوقوف على الحياد والسعي لإبعاد شبح الحرب الأهلية، فبدا الأمر كما لو كان ما نشاهده اليوم مناورات بالذخيرة الحية بين حلفاء تجمعهم أهداف مشتركة".
إذا ما أدرنا شريط المشهد سريعاً إلى الأمام، فيمكن استعادة ما جرى منذ الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، وما سبقه من أشهر مفاوضات طويلة، عبر الوسيط السعودي، نجد أن أصحاب الشأن لم يكونا مقتنعين بحتمية الاتفاق وأهميته لتأمين الخدمات وضمان الأمن واستقرار الأوضاع في المناطق التي يتنازعان النفوذ عليها، ومن المسلم به أن الفترة التي مرت منذ ذلك التاريخ برهنت عدم جدية الموقعين وابتعاد همومهمم عن الهم الوطني.
وأدى حال التكلس والاسترخاء الذي تعيشه مكونات الشرعية بعيداً عن الناس وعن أعضائها إلى انقطاع عن إدراك هموم الناس واحتياجاتهم، ولم تتمكن القيادات، سواء من يمثل "الشرعية" أو من يمثل "المجلس الانتقالي الجنوبي" من الخروج بتفاهمات تتجاوز ترتيب تنفيذ بنوده، مع أنها لا تحتمل التأويل، لكن عوامل الثقة المفقودة لم تسمح بتمرير أي من نصوصه بحسب المواعيد المقرة، وبعد مرور 390 يوماً، تجمد الأمر عند صراع استنزف وقتاً طويلاً للاتفاق حول عدد الحقائب الوزارية، التي سيحصل عليها كل طرف، ثم دخلوا في نفق تسميتها، وبعد ذلك، بدأ الصراع حول أسماء مرشحي كل مكون.
وفي خضم هذه العملية الطويلة لم يكن المواطنون هماً ولا الخطط المستقبلية حاضرة، وبعد كل هذا الوقت الطويل تبدلت الأوضاع على الأرض، فجعلت من الصعب تصور انحسار الصورة القاتمة والتخفيف من انحدار الهبوط السياسي، حتى وإن تم الإعلان عن الحكومة، فقد صار مقلقاً للغاية ومؤسفاً أن انتهازية المكونات جعلت البلد أسيراً لرغباتهم الذاتية، ومن غير المحتمل حدوث تبدل ذي قيمة في إدارة المشهد.
لعل الدرس الواجب فهمه، هو أن الاتفاقات السابقة جرت بطريقة "سلق" التفاهمات للخروج من مأزق راهن من دون التفكير بما ستليها من خطوات، فأصبح الأمر مجرد إطفاء حريق مشتعل يهيئ لانفجار أعظم وأكثر تدميراً.
ولقد حدث هذا في "اتفاقية الوحدة" في نوفمبر 1989 ثم "العهد والاتفاق" في 1994، وبعدها "السلم والشراكة الوطنية" في 2014، وصولاً إلى "اتفاق الرياض" في 2019، وبعده "آلية التسريع" في 2020.
والواقع أنها كلها تم التوصل إليها مع وجود نية عند كل الأطراف للانقلاب عليها والتخلص منها حين تتغير الظروف، وعندما يصبح أحد الأطراف الموقعة قادراً على ابتلاع الآخرين، من هنا، فإن الركون على النوايا التي يظهرها أي من الأطراف سيزيد من تعقيدات الموقف.
إن ما يحتاجه اليمنيون حالياً هو الابتعاد عن زيف الأوهام والطموحات الكبرى، فالجميع يدرك أن ما يجري داخلياً مختلف تماماً عما تبحثه القيادات في الخارج، بل إن انشغالهم لا يتعلق بحياة المواطن البسيط ومعاناته ولا يقترب من أحزانه، فسقوط العملة وانقطاع المرتبات وانعدام الخدمات وارتفاع معدلات الفقر والمجاعة، ليست من القضايا التي يبحثونها، ولا يمكن القبول بمبرر أن تشكيل الحكومة سيكون علاجاً ناجعاً لأنها في الأصل لم تفعل شيئاً خلال السنوات الماضية، ولا يضع عليها أحد أملاً في المستقبل.
ستظل الأوضاع تدور في مسار مشوش ومضطرب يزيد من حدته التشبث بالأدوات نفسها، التي لا يمكنها ولا ترغب بالتوصل إلى مخرجات أكثر انضباطاً ونزاهة.
كما أن الحاصل الآن هو استعادة استخدام للآليات ذاتها الصدئة، وفي حال كهذه، لا يمكن إلا الاستمرار في وهم اتفاق وآلية.
* نقلا عن اندبندنت عربية
ليس جديداً على اليمنيين توقيع اتفاقات لحل نزاعات السلطة، وغالباً ما تتم بوساطات خارجية، ليعلن بعدها عن الإعجاب بـ "الحكمة اليمانية".
ونشهد التعبير عن الابتهاج بنجاح المساعي، لكن سرعان ما تخبو كل هذه المشاعر لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، يتغافلون عنها بمظنة أن ترحيل التفاصيل، يمنحهم فرصة التأثير على بعضهم الآخر، كما أنهم لا يرون في الاتفاقات أكثر من مجاملة وتهرب ومماطلة وكسب للوقت.
وبالعودة إلى تفاصيل ما جرى قبل التوقيع على (اتفاق السلم والشراكة الوطنية) في 21 سبتمبر (أيلول) 2014، فإن المفاوضين من جانب "أنصار الله"، كما سماهم الاتفاق، وكذلك المفاوضون من جانب الحكومة القائمة في صنعاء، بعد أن اتفقوا على كل بنود الاتفاق بعد أيام طويلة من المفاوضات توقفوا عند نقطة البدء، ولكن ممثلي الحوثيين لم يظهروا جدية بالشروع في التنفيذ.
وبحسب ما ذكره الدكتور الراحل عبدالكريم الأرياني، فقد تم التواصل رسمياً بالمسؤولين في سلطنة عُمان لإبلاغهم بمجريات الأمور، فقاموا بدورهم بالاتصال بالحكومة الإيرانية، التي مارست ضغوطاً على الحوثيين للقبول بما اتفق عليه المفاوضون.
وعلى الرغم من هذا، فمن الواجب الاعتراف والتذكير بأن كل تفاصيل الاتفاق كانت يمنية بامتياز وجرى بحثها داخل اليمن وجهاً لوجه من دون وسطاء.
وندرك اليوم بوضوح أن الحوثيين لم يماطلوا في التوقيع إلا لكسب مزيد من الوقت لإنجاز الاستيلاء على العاصمة في يوم التوقيع نفسه، الذي جرى في (دار الرئاسة) بحضور الرئيس هادي الذي دخل إلى القاعة وبرفقته ممثلو "حركة أنصار الله - الحوثيين" والسيد جمال بن عمر مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، وكان في انتظارهم منذ الصباح قادة الأحزاب اليمنية، في حين كان اللواء علي محسن الأحمر، قد وصل إلى الرياض بعد أن قامت الحكومة السعودية بتأمين خروجه من صنعاء، لأنه كان هدفاً محققاً للحوثيين.
بعد التوقيع على "اتفاق السلم والشراكة"، كتبت في صحيفة الشرق الأوسط مقالة بعنوان "وهم السلم والشراكة في السياسة اليمنية"، وقلت فيها، "كامل كيان الدولة تهاوى، وسقطت قيمتها المعنوية والمادية أمام الضربات المتلاحقة من المتضررين لخروجهم من المشهد السياسي والراغبين في استعادة أدوارهم، وكذلك من ضعف القابعين حالياً على قمته، وأيضاً رغبات وجشع القوى السياسية وابتعادها عن المصلحة الوطنية.
وليس مستغرباً تواري ما تبقى من مؤسسات الحكم المتهالكة أصلاً بعد عقود من التهميش لدورها وضرب قواعدها، وزاد الأوضاع سوءاً ارتباك الحكم الجديد ومحاولاته الخجولة للوقوف على الحياد والسعي لإبعاد شبح الحرب الأهلية، فبدا الأمر كما لو كان ما نشاهده اليوم مناورات بالذخيرة الحية بين حلفاء تجمعهم أهداف مشتركة".
إذا ما أدرنا شريط المشهد سريعاً إلى الأمام، فيمكن استعادة ما جرى منذ الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، وما سبقه من أشهر مفاوضات طويلة، عبر الوسيط السعودي، نجد أن أصحاب الشأن لم يكونا مقتنعين بحتمية الاتفاق وأهميته لتأمين الخدمات وضمان الأمن واستقرار الأوضاع في المناطق التي يتنازعان النفوذ عليها، ومن المسلم به أن الفترة التي مرت منذ ذلك التاريخ برهنت عدم جدية الموقعين وابتعاد همومهمم عن الهم الوطني.
وأدى حال التكلس والاسترخاء الذي تعيشه مكونات الشرعية بعيداً عن الناس وعن أعضائها إلى انقطاع عن إدراك هموم الناس واحتياجاتهم، ولم تتمكن القيادات، سواء من يمثل "الشرعية" أو من يمثل "المجلس الانتقالي الجنوبي" من الخروج بتفاهمات تتجاوز ترتيب تنفيذ بنوده، مع أنها لا تحتمل التأويل، لكن عوامل الثقة المفقودة لم تسمح بتمرير أي من نصوصه بحسب المواعيد المقرة، وبعد مرور 390 يوماً، تجمد الأمر عند صراع استنزف وقتاً طويلاً للاتفاق حول عدد الحقائب الوزارية، التي سيحصل عليها كل طرف، ثم دخلوا في نفق تسميتها، وبعد ذلك، بدأ الصراع حول أسماء مرشحي كل مكون.
وفي خضم هذه العملية الطويلة لم يكن المواطنون هماً ولا الخطط المستقبلية حاضرة، وبعد كل هذا الوقت الطويل تبدلت الأوضاع على الأرض، فجعلت من الصعب تصور انحسار الصورة القاتمة والتخفيف من انحدار الهبوط السياسي، حتى وإن تم الإعلان عن الحكومة، فقد صار مقلقاً للغاية ومؤسفاً أن انتهازية المكونات جعلت البلد أسيراً لرغباتهم الذاتية، ومن غير المحتمل حدوث تبدل ذي قيمة في إدارة المشهد.
لعل الدرس الواجب فهمه، هو أن الاتفاقات السابقة جرت بطريقة "سلق" التفاهمات للخروج من مأزق راهن من دون التفكير بما ستليها من خطوات، فأصبح الأمر مجرد إطفاء حريق مشتعل يهيئ لانفجار أعظم وأكثر تدميراً.
ولقد حدث هذا في "اتفاقية الوحدة" في نوفمبر 1989 ثم "العهد والاتفاق" في 1994، وبعدها "السلم والشراكة الوطنية" في 2014، وصولاً إلى "اتفاق الرياض" في 2019، وبعده "آلية التسريع" في 2020.
والواقع أنها كلها تم التوصل إليها مع وجود نية عند كل الأطراف للانقلاب عليها والتخلص منها حين تتغير الظروف، وعندما يصبح أحد الأطراف الموقعة قادراً على ابتلاع الآخرين، من هنا، فإن الركون على النوايا التي يظهرها أي من الأطراف سيزيد من تعقيدات الموقف.
إن ما يحتاجه اليمنيون حالياً هو الابتعاد عن زيف الأوهام والطموحات الكبرى، فالجميع يدرك أن ما يجري داخلياً مختلف تماماً عما تبحثه القيادات في الخارج، بل إن انشغالهم لا يتعلق بحياة المواطن البسيط ومعاناته ولا يقترب من أحزانه، فسقوط العملة وانقطاع المرتبات وانعدام الخدمات وارتفاع معدلات الفقر والمجاعة، ليست من القضايا التي يبحثونها، ولا يمكن القبول بمبرر أن تشكيل الحكومة سيكون علاجاً ناجعاً لأنها في الأصل لم تفعل شيئاً خلال السنوات الماضية، ولا يضع عليها أحد أملاً في المستقبل.
ستظل الأوضاع تدور في مسار مشوش ومضطرب يزيد من حدته التشبث بالأدوات نفسها، التي لا يمكنها ولا ترغب بالتوصل إلى مخرجات أكثر انضباطاً ونزاهة.
كما أن الحاصل الآن هو استعادة استخدام للآليات ذاتها الصدئة، وفي حال كهذه، لا يمكن إلا الاستمرار في وهم اتفاق وآلية.
* نقلا عن اندبندنت عربية