فيصل الصوفي

فيصل الصوفي

الدفاع عن حرية الضمير كان أولى

Thursday 24 December 2020 الساعة 05:51 pm

تابعنا الجدل الذي اشترك فيه أعضاء في مجلس النواب، ومحامون، وكتاب، حول التعديل الجديد المراد إضافته إلى قانون الجرائم والعقوبات.. ولدينا ما نعلقه على هذا الجدل، لكن في البداية دعونا نحرر الخلاف حسب التعبير الفقهي، وهو أن المادة تسع وخمسين ومائتين في الفصل الثالث (من الباب العاشر) المخصص للجرائم الماسة بالدين وحرمة الموتى، تنص على التالي: كل من ارتد عن دين الإسلام يعاقب بالإعدام، بعد الاستتابة ثلاثاً، وإمهاله ثلاثين يوماً، ويعتبر ردة الجهر بأقوال أو أفعال تتنافي مع قواعد الإسلام وأركانه، عن عمد أو إصرار، فإذا لم يثبت العمد أو الإصرار، وأبدى الجاني التوبة فلا عقاب.. فجاء التعديل الجديد ليضيف إلى هذا النص عقوبة تعزيرية هي الحبس فترة لا تزيد عن سنة لمن لم يثبت أنه ارتد عمداً، أو تراجع عن ردته وأظهر التوبة.. ففي الأول لدينا مرتد تراجع عن الردة، أو لم يكن متعمداً، فأعلن التوبة، وعلى ذلك لا عقاب عليه، بينما الثاني يقرر عليه عقوبة السجن مدة سنة، حتى إذا تاب، وحتى إن تبين أنه لم يكن متعمداً.

نعتقد أن هذا الجدل ضرب من ضروب الترف، لأنه يحوم حول قضية خطرة دون أي مساس بجوهرها.. فمن جهة، كل المشاركين فيه غير مختلفين على أن الردة جريمة، ولا يختلفون حول إعدام المرتد، وأما اعتراض المعترضين فموضوعه رفض تغليظ عقوبة هي غليظة من الأساس.. بينما لم يعترض معترض على فقرة مثل: (يعتبر ردة الجهر بأقوال أو أفعال تتنافى مع قواعد الإسلام).. هكذا: قواعد الإسلام، دون تحديد ما هي هذه القواعد، إذ قد قال قائلون إن تقليد الكفار في اللباس ردة، والسخرية من لحية المسلم ردة، فوضعوا من أنكر وجوب الصلوات، ومن سخر من لحية الزنداني، مثلاً، في سلة واحدة هي سلة الردة، ولو عاش يزيد بن ربيعة الحميري إلى زماننا هذا لوضعوه في نفس السلة، لأنه سخر من لحية عباد بن زياد الطويلة بقوله: ألا ليت اللحى كانت حشيشاً، فنعلفها خيول المسلمينا.. ومن جهة أخرى كان الأولى بالمعترضين الدفاع عن حرية المعتقد، أو حرية الضمير، لا الدفاع عن نصوص في القانون مجرمة، فهي عندنا مجرمة، وفي نفس الوقت تعتبر فزاعة، أو تشريعاً لحالات ارتداد محتملة يبدو قد تم ملاحظة زيادتها الآن بسبب ممارسات الجماعة الحوثية التي هزت معتقداتهم الدينية، بما في ذلك نظرتهم إلى آل بيت محمد، وهذه الحالات قد ترتفع في المستقبل ولن تستطيع الجماعة تقييدها.

من الناحية العملية لم تكن للقانون فعالية في السابق، بدليل أن حكم الردة لم يسر على أحد من الذين رموا بهذه التهمة، والأحكام القليلة التي أصدرها بعض القضاة أبطلت إما بعفو رئاسي أو بحكم قضائي من محكمة أعلى درجة.. كما أن اليمنيين الإناث والذكور الذين تخلوا عن الإسلام عن اقتناع لا يظهرون ذلك، باستثناء الذين تمكنوا من الحصول على لجوء سياسي في الخارج، وبعض منهم يتخذ من الردة وسيلة للانتقال إلى مواطن العيش الرغيد في الغرب.

بعد هذا التوضيح، نرى أنه من المناسب هنا مشاركة القارئ معارف كسبناها من مطالعاتنا لكتب الفقه حول موضوع الردة.. نقول: إنه قبل أن يقنن الفقهاء حكم الردة وعقوبتها، كان بعض التابعين قد قرروا أن المرتد لا يُقتل، فقد قال إبراهيم النخعي إن المرتد يستتاب أبداً، وقال سفيان الثوري يؤجل ما رجيت توبته.. ويبدو أن الإمام ابن حزم الاندلسي أخذ بقولهما، حين قرر أن المرتد يحبس ولا يُقتل.. هذا الاختلاف يدل على عدم وجود حكم قطعي، إذ لو كان للرجوع عن الإسلام حد مقرر في الشريعة لجرى على المرأة والرجل على قدم المساواة، كحد السرقة الذي يسري على المرأة والرجل.. وفي حياة الرسول ارتد عبد الله بن جحش، وارتد كاتب الوحي عبد الله بن أبي السرح، وغيرهما كثير، فلم يعاقبوا، وبعد وفاة الرسول فشت الردة بين العرب، بل إن أم المؤمنين قتيلة بنت قيس الكندية ارتدت عن الإسلام مع عكرمة بن أبي جهل الذي أعلن ردته وحركته في حضرموت وتزوجها عكرمة، فلما توجع أبو بكر لذلك قال له عمر بن الخطاب إن ردتها أخرجتها من زمرة أمهات المؤمنين.

لقد وردت كلمة الردة في أكثر من سورة وآية قرآنية، لكنها لم تقترن بعقاب كما في جرائم القتل والزنا والسرقة والقذف، وأحالت عقاب المرتدين إلى الآخرة كما في الآية: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلـئِكَ أَصْحَابُ النّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.. والآية: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم}.. وهذه الآية نزلت في الذين ارتدوا زمن الرسول.

الفقهاء هم الذين قرروا للردة عقوبة، وكان ذلك في وقت متأخر، والردة عند معظم الفقهاء هي إنكار حكم مجمع عليه في الإسلام كوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج، إنكار حرمة الربا، إنكار حرمة الخمر، رمي القرآن أو كتاب حديث أو كتاب تفسير في القاذورات، بالإضافة إلى ما ذكرنا قبل كالسخرية من اللحية.. ووضع الفقهاء شروطاً مختلفة في المرتد، تثبت صحة ردته، ومع ذلك ليسوا متفقين على بعض هذه الشروط.. فقالوا يشترط في المرتد أن يكون عاقلاً، فلا تصح ردة المجنون والسكران لفقد العقل، ولا تشترط الذكورة بل تصح ردة الرجل والمرأة، وإن اشترطت الشافعية في المرتد أن يكون بالغاً، فلا تشترط الحنفية والمالكية والحنابلة البلوغ، إذ تصح ردة الصبي، لأن البلوغ ليس شرطاً عندهم بعكس الشافعية، وتقول الحنفية ردة الصبي لا تصح كما أن إسلامه غير صحيح، فلا يقتل ولا يضرب، فإذا بلغ عرض عليه الإسلام، فإن أبى ضرب وحبس، وإن تأكدت صحة ردته بانت منه امرأته ولا تطبق عليه العقوبة المقررة على المرتد، لأنه ليس أهل لالتزام العقوبات في الدنيا.. ولكي تعتبر ردة المسلم صحيحة يجب أن يكون حراً، أي اختار ذلك بإرادته، أما من أجبر على الردة فليس بمرتد، واشترط الإمام ابن حزم الاندلسي لصحة ردته، إسلام أبويه كليهما، إضافة إلى شروط العقل والبلوغ والحرية.. وقالوا تثبت الردة بالإقرار أو بشهادة شاهدين اثنين عدلين على الأقل يتوافران على شروط قبول الشهادة.. وحكم الردة يسري على من دخل الإسلام ثم رجع عنه، ولا يسري على من ليس بمسلم، وقال بعض منهم لا يسري على من كان أبواه غير مسلمين، وهذا الحكم هو: يقتل المرتد إذا كان بالغاً عاقلاً، وأقر بردته أو شهد بردته الشهود، وهذا رأي الأكثرية، ولا تقتل المرتدة عند أبي حنيفة، ولكن تحبس وتضرب كل ثلاثة أيام لإجبارها على الإسلام، لعموم حديث الرسول لا تقتلوا امرأة.. وعنده أيضاً أن قتل المرتد لدفع شر الحرابة، لا بسبب الكفر، والقتل يخص من تقع منه الحرابة، وهو الرجل، بينما لا تقع الحرابة من المرأة لضعفها.