ما أثقل أن يتحدث المرء عن نفسه، ويقول إنه كان محقا في تقديره لموقف ما.
ها أنذا أقترف الخطيئة، رغم أنني لم أكن الوحيد الذي نبه إلى خطورة استجابة الحكومة الشرعية لضغوط الدول الغربية ومبعوثها إلى اليمن، لكي لا تدفع بقواتها إلى الحديدة وموانئها الثلاثة، في خريف 2018.
غير أني زدت وأعدت التذكير بما فعله الرئيس السابق علي عبدالله صالح، في 1994، عندما لم يأبه لتحذيرات دول في الغرب من اقتحام عدن، وسار في طريقه، ودخلها.
سوف أتجاوز واستخدم المصطلح المتعسف في وصف الولايات المتحدة وبريطانيا، ومعهما الاتحاد الأوروبي، بالمجتمع الدولي، بما في ذلك من مصادرة على المجتمع العريض المنخرط في عضوية الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم أعود وأقول إن الرئيس صالح -ومستشاريه معه- أدرك أن أحدا لن يضربه على يده إذا ما أكمل مخططه، وسار في الحرب إلى نهايتها.
ذلك ما لم يفعله الذين جاؤوا من بعدهم، فأصاخوا السمع، ووقفوا عند أبواب الحديدة، ثم ذهبوا إلى ستوكهولم، ليوقعوا قرارا يقيدهم ويمنعهم من التقدم خطوة واحدة نحو الحديدة.
لا أظن أن مستشاري الرئيس -وهم كثرة كاثرة- ينقصهم الإدراك حتى يعرفوا ما عرفه أفراد الشعب، وعبروا عنه في كتابات غزيرة بوسائل التواصل الاجتماعي.
وكان القرار السليم ترك غريفيث ومن ورائه السفراء والمتحدثين الرسميين في واشنطن ولندن وبروكسل، يصيحون في وادٍ لا يسمعهم فيه أحد، إلى أن يفيقوا على واقع سد البحر في وجه القابضين على العاصمة.
الأرجح أن الحكومة تلقت نصائح، وربما خضعت لضغوط من دول التحالف التي لا تستطيع تجاهل ما يأتيها من العواصم الثلاث.
وما كان ينبغي العمل بالنصيحة أو الخضوع للضغط، لأن دعم دولة أو أكثر للدول غيرها في حرب أو نزاع سياسي، لا يضع الأخيرة تحت الحماية، ولا يصادر قرارها.
وفي النهاية، فقد كان تحرير الموانئ الثلاثة يخلق حقائق جديدة تريح دول التحالف، وتلزم المجتمع الدولي بالتعامل معها، والبناء في تصوراته وتقديراته على أساسها.
لكن، لماذا المجتمع الدولي؟ وما الذي يمكنه أن يقدمه لنا أو يمنعه عنا إذا احتفظنا بقرارنا في أيدينا؟
إذ إن المهم هو ما نستطيع أن نخطه نحن على الأرض، وليس ما يملى علينا.
ولقد نعتقد أن الأحزاب السياسية ارتكبت خطأً شنيعا يوم وضعت خلافاتها في أيدي سفراء الولايات المتحدة وبريطانيا منفردة ومع الاتحاد الأوروبي.
كان في هذا تفريط بالسيادة -دعونا لا ننسَ أنها دول استعمارية- وتسليم للأجنبي بأن يتولى دور القاضي في فصل المنازعات بين أهل البيت الواحد. والنتيجة أنه لعب دورا خبيثا في تغذية الخلافات إلى أن تطورت، وأدت إلى انفجار 2011 وما جاء بعده.
مع ذلك، استمر التعلق بالأوهام ورهن مستقبل البلاد لإرادة الآخرين، فلم تستفد قيادة السلطة الشرعية من مرارة التجربة السابقة، فأعطت أذنها للمجتمع الدولي، وانصاعت لرغباته.
ولو أنها فعلت العكس، وتركت القوات تكمل الاستيلاء على الساحل، لكانت وفرت الكثير من العذاب على اليمن واليمنيين، وعليها وعلى الحوثيين أنفسهم.
كان ذلك التغير في الموقف العسكري سيدفع الحوثي إلى إعادة حساباته بعد أن يجد نفسه عاجزا عن البقاء الطويل مخنوقا في أعالي الجبال، وبالتالي يقبل مبدأ الحوار من أجل تسوية تطوي صفحة الحرب، وتؤسس لمستقبل البلاد على قاعدة مخرجات الحوار الوطني مع تعديلات يتفق عليها.
نسترجع هذا ونحن أمام منعطف خطير آخر في مجرى الحرب. ولا ضير من التوقف قليلا لعقد مقارنة بين موقف العواصم الثلاث (واشنطن ولندن وباريس) عند حصار الحديدة بواسطة قوات الشرعية، وموقفها اليوم من حصار مأرب على أيدي قوات الحوثي.
هناك عند أبواب الحديدة صرخت العواصم الثلاث، وكادت تذرف الدمع على المدينة التي سوف تدمر، والسكان الذين سيقتلون أو يجوعون ويعطشون ويشردون.
وهنا في مأرب صكت آذانها، وأغمضت عيونها، وغابت عنها الرحمة، وذهبت الشفقة. غريفيث نفسه أصابه العمى والخرس. ولا معنى للتصريحات الأمريكية الأخيرة إذا كانت واشنطن تستطيع أن تمارس بعض الضغط مادامت تملك خطوط تواصل خلفية مع الحوثيين، حسبما صرح مبعوثها إلى اليمن المعين أخيرا: تيموثي ليندركينج.
سنقول إنها موافقة إذا لم يكن اتفاقا سريا غير مكتوب على استيلاء الحوثي على مأرب قبل التطورات السياسية المحتملة في ضوء إعلان الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، عزمهم على إنهاء الحرب في اليمن.
حتى إيران تكلمت أخيرا على لسان الرئيس حسن روحاني، الذي دعا إلى وقف الحرب في اليمن، دون أن ينسى المطالبة بإيقاف بيع الأسلحة للدول المجاورة، دون أن يلزم نفسه بشيء، ومن غير أن يلفت إلى أن الأمريكيين والأوروبيين قد سبقوه إلى تنفيذ مطلبه.
يتضح من هنا توفر الرغبة لدى الحوثيين بالانخراط في مفاوضات، وهم لهذا يريدون تعظيم أوراقهم بإخراج الشرعية من مأرب؛ عاصمتها الفعلية، ومن ثم إكمال السيطرة على أراضي الجمهورية العربية اليمنية السابقة، باستثناء شارع جمال وبعض قرى الحجرية في تعز، وهم قادرون أن يقفزوا إليها في ساعات إذا نجح هجومهم على مأرب.
وليس من الواضح إلى أي مدى تستطيع مأرب أن تصمد في وجه الهجمات المتلاحقة من المقاتلين الشرسين، إذ يعتمد الحوثيون الاستراتيجية الإيرانية المستخدمة في حربهم مع العراق، فمن أجل التغلب على غزارة النيران العراقية، اعتمدوا الكثافة البشرية والتعبئة المعنوية التي تقدس الشهادة. ذلك سبيل الحوثيين الآن في ما يتأكد من كثرة الضحايا، إذ الشهيد روح التاريخ، كما كان يقول الخميني.
حتى الآن، أظهرت قبائل مأرب، ومعها الجيش، بسالة وصمودا وكفاءة في القتال، لكن المخاوف تنتاب البعض من أن تحدث خيانة من ضباط في الميدان، أو أن يمنع عن المقاتلين السلاح من ضباط في القيادة.
وثمة ما لا يفهم في تعامل الشرعية مع الحرب، فقد كان من حسن التصرف اشعال الجبهات كلها من أجل حرمان الحوثي من تعزيز جبهة إيران، وكذلك فقد كان بوسعها كسر الجمود في الساحل، والتقدم نحو الحديدة، بعد أن مات اتفاق ستوكهولم بمجرد انقضاء الفترة اللازمة لتنفيذه.
لا يبدو أن هناك من يفكر خارج دائرة الحريق المشتعل في مأرب.
ويتراءى لي أنهم في العواصم الكبيرة ينتظرون سقوط مأرب في أيدي الحوثي، ثم يدعون مجلس الأمن للاجتماع واصدار قرار بوقف النار وإلزام الأطراف بالعودة إلى المفاوضات.
وليس من أحد يعلم الترتيبات المقترحة أو الجاهزة.
فعلى المستوى المحلي لم تعد الأطراف محصورة في الحوثيين والحكومة المعترف بها. وإذا شارك المجلس الانتقالي، فهل يذهب مستقلا عن الحكومة أو معها؟ وهل المجلس يمثل الجنوب كله؟ وإذا لم يكن، فهل يقبل المعترضون في شبوة وحضرموت وغيرهما، أن تقفز الحكومة الشرعية فوق عدن وتمثلهم؟
خارج الإطار المحلي، هناك دولتان تخوضان الحرب، لهما مطالب، وعليهما مسؤوليات وأثمان. وهناك إيران فاعل متنكر أو ناكر، ثم عمان الوكيل والوسيط في الوقت نفسه.
المسألة قبض الريح، وليس قبض اليد. سوف تتطاول المفاوضات كثيرًا، والحرب قد تتوقف حينا، لكننا لن نشهد ختامها. واستراحة المتحاربين قد لا تتيح للشعب أن يأخذ نفسا عميقا، وأن يأكل لقمة سائغة.
*نقلا عن موقع يمن سايت